النفاق في مجتمعنا
آية
كتب دكتور/ حسن صابر
في ليلة جفاني فيها النوم ، ولم أكن مستعداً لا للقراءة ولا للكتابة ، ففتحت التليفزيون وجلست أتنقل من قناة فضائية لأخرى . . تعجبت من كمية النفاق الذي تمارسه هذه القنوات للرئيس السيسي سواء كانت القنوات الحكومية أو الخاصة . . فنشرات الأخبار تبدأ بالمتابعة المملة لمقابلات الرئيس ، ثم بعد ذلك إجتماعات مجلس الوزراء حيث تبدو وجوه الوزراء سعيدة مرحة أمام كاميرات التصوير ، وكأنهم إنتهوا من كل مشاكل مصر ، ولم يعد هناك ما يشكو منه المصريون وما يعذبهم ويقض مضاجعهم من إرتفاع الأسعار ، وإنعدام العلاج المثالي لأمراضهم ، وعدم توفر التعليم الصحيح لأبنائهم في مناخ تربوي حقيقي داخل مدارس مثالية . . وبعد نشرات الأخبار أو قبلها تذاع الأغاني الوطنية لزيادة حماس المصريين . . حماس من أجل ماذا ؟ لا أعرف بالضبط . . هل لِتَحَمُّلِ الغلاء وَتَقَبُّلِ مزيدٍ من إرتفاع الأسعار ؟ أم حماس لتقبل حقيقة أن من يمرض ولا يقدر على تكاليف العلاج فليمت في هدوء وسلام ، وقبل أن يموت عليه أن يدعو للرئيس لأنه خلصنا من حكم الإخوان !!
إنّ من النفاق ما هو أسهل احتمالاً على أصحابه من الصراحة ، فمع الأغاني الوطنية تُبَثُّ فقرات عن الإنجازات التي تمت في العاصمة الإدارية الجديدة ، والمساكن الشعبية الجديدة التي إفتتحها الرئيس ، وشبكة الطرق التي أشرفت على تنفيذها الهيئة الهندسية للقوات المسلحة ، والعجيب أنهم لا يملون من الحديث عن التفريعة الجديدة لقناة السويس التي تمت منذ عدة سنوات ، وتكلفت 64 مليار جنيه ، تم تحصيلها من مدخرات المصريين ، الذين باعت لهم الحكومة شهادات إستثمار ذات نسبة فائدة عالية جداً وأعلى من أية شهادات أخرى ، لكن الذي حدث أن إنخفضت إيرادات القناة من 6 مليار دولار إلى 5 مليار دولار ، ثم إلى 4.3 مليار دولار بدل أن تزيد ، كما حسبها الهواة الذين خططوا ونفذوا هذا المشروع ، وأصبحت الفوائد العالية لشهادات الاستثمار فضلاً عن قيمتها الأصلية عبئاً على الموازنة العامة للدولة ، بعد أن تسببت في زيادة الدين الداخلي . . ذاك مصير المشاريع التي يخطط لها الهواة والذين تنقصهم الخبرة ، ثم وضعتهم المقادير في سدة الحكم بمصر ، وقد حان الآن وقت دفع الفوائد لحملة هذه الشهادات الإستثمارية ، لكن للأسف لا توجد الأموال اللازمة للدفع ، ولا أعرف ماذا ستفعل الحكومة لتسديد هذه الفوائد الباهظة .
لم أشاهد برنامجاً واحداً يعرض أحوال الفصول في المدارس الحكومية الابتدائية والاعدادية والثانوية ، ويناقش المناهج ومدى صلاحيتها للعصر الذي نعيش فيه ، ومستوى المدرسين الذين يعلمون أبناءنا ، وأخلاقيات الطلاب الذين من المفترض أنهم سيشكلون الأجيال القادمة من المصريين .
ولم أشاهد برنامجاً واحداً يناقش أحوال المستشفيات الحكومية والخاصة في كل محافظات مصر ، ويستعرض أحوال الأطباء ومدى كفائتهم ، وأحوال التمريض ، وتوافر جميع الأدوية والمعدات الطبية الحديثة ، وتأمين المستشفيات ، وخطط وزارة الصحة لتطوير هذه المستشفيات وزيادة أعدادها بما يتناسب مع أعداد المرضى ، وتطوير شركات الأدوية المصرية التي توقفت عن الإنتاج ، وأصبحت مجرد شركات لإعادة تعبئة الدواء المُصَنَّع خارج مصر .
المنافق الحقيقي هو من يكذب بصدق ، فحتى الوزراء يكذبون نفاقاً للرئيس على طريقة أنا لا أكذب لكني أتجمل . . وزيرة محترمة رقيقة الملامح جابت الكرة الأرضية من الولايات المتحدة الأمريكية غرباً إلى الصين وكوريا الجنوبية شرقاً مروراً بدول أوروبا ودول الخليج العربي بحثاً عن قروض لمصر لسد العجز في ميزانيتها ولتنفيذ مشاريع قومية حتى أغرقتنا في قروض كبيرة ستعاني منها الأجيال القادمة ، وتعلن هذه الوزيرة دون خجل أن رصيد مصر من العملة الأجنبية قد إرتفع ، وذلك خداعٌ للشعب وإيهامٌ له أنه على الطريق الصحيح ، وهى أول من تعلم أن هذه الزيادة في الرصيد من العملة الأجنبية هى نتيجة للقروض التي حصلنا عليها من البنك الدولي ، ومن الدول الخليجية ، وليست نتيجة زيادة في إنتاجنا الصناعي أو الزراعي ، أو زيادة في دخل قناة السويس ، أو زيادة في إنتاجنا من البترول والغاز الطبيعي ، أو زيادة في دخل السياحة . . لقد وصلت ديون مصر الخارجية فقط إلى 104 مليار دولار ، بالإضافة إلى الدين الداخلي الذي وصل إلى 4 تريليون جنيه مصري . . أرقام مخيفة وصلت إليها ديون مصر الخارجية والداخلية ، وأتمنى أن إكتشافات الغاز في البحر المتوسط تساهم في تسديد هذه الديون إلى جانب دخل السياحة ودخل قناة السويس .
منتديات الشباب التي تعقد مرتين كل عام ، لا تتضمن حلقات نقاشية عن التعليم والصحة ، وهما الأساس لبناء أي بلد وتطوره . . وبينما كانت هناك ندوة هامة عن الطاقة ، إلا أن بقية الندوات خلت من مناقشة موضوع الفقر المائي الذي تعاني منه كثيرٌ من دول العالم حتى لا يتم التركيز على موضوع سد النهضة الذي فشلنا فيه بسبب عدم إحترافيتنا ، وبسبب نقص الخبرات السياسية للقيادات وللمتفاوضين المصريين . . وبالطبع ليس صعباً أن نستنتج أن جداول أعمال هذه المنتديات كانت مسيسة ، وربما وضعت الجهات الأمنية خطوطها العريضة . . وكان عجيباً أن يمتد النفاق إلى الندوات التي عقدت ، فالندوة تكون قد بدأت ، وقطع فيها المتحاورون شوطاً طويلاً من النقاش ، ثم يدخل الرئيس إلى القاعة ، فتتوقف المناقشات ويرتفع صوت مدير الندوة معلناً وصول السيد عبد الفتاح السيسي رئيس الجمهورية ، فيقف كل الحاضرين سواء في القاعة أو على المنصة ، وبينهم في إحدى الندوات رؤساء جمهوريات أفارقة ، لكنهم يقفون مضطرين ، ولا يجلسون إلا بعد أن يشير لهم الرئيس بالجلوس ، بعد ذلك فإن كل المتحدثين يوجهون كلامهم للرئيس ، وكأن القاعة خلت إلا من الرئيس وحوارييه . . حتى ندوات محاكاة جلسات مجلس الأمن فقد حدث فيها نفس الشئ عندما يدخل الرئيس للقاعة . . فكيف تكون محاكاة لجلسات مجلس الأمن ثم تتوقف الجلسة عندما يدخل الرئيس وتستأنف بعد جلوسه ، ثم يوجه المتكلمون ممن يفترض أنهم يمثلون الدول الأعضاء في مجلس الأمن كلماتهم الى الرئيس عبد الفتاح السيسي .
لقد حضرت الكثير من المؤتمرات والندوات العالمية ، وما أن تبدأ المناقشات داخل الجلسات ، فلا تتوقف الا في الوقت المقرر ، مهما كان شخص من يدخل الجلسة متأخراً ، لكن عندنا في مصر رئيس الجمهورية فوق هذا التقليد ، ولابد أن يتوقف الزمن وتتجمد عقارب الساعة عند دخوله لأية قاعة في مصر .
نحن في مصر مثلما نملك طاقةً هائلةً من المرح والفكاهة ، نملك أيضاً قدرةً فائقةً على النفاقِ السياسي والاجتماعي لا مثيل لها في العالم .
أذكر أنه في أحد المنتديات صفق الحاضرون للرئيس عندما تحدث عن البرنامج الرئاسي لإعداد القادة ، لكن لم يتجرأ شخص واحد على مناقشة الرئيس في هذا الموضوع . . يتخرج ألف متدرب من كل دورة من دورات البرنامج الرئاسي ، وقد تخرجت حتى الآن دورتان ، أي تخرج ألفا 2000 متدرب ، وبدأت الدورة الثالثة . . هذا البرنامج يخرج متدربين على القيادة لتولي مهام نواب الوزراء ونواب المحافظين ، بينما ستكون هناك دورات خارج مصر وأعلى مستوىً ، لتأهيل المتدربين على منصب الوزير والمحافظ . . ذلك أمر جيد ونشجع عليه ، لكن علينا ألا ننسى أن عدد الطلاب في مصر يبلغ 60 مليوناً ، وليس فقط بضعة آلاف من المتدربين على العمل في البرنامج الرئاسي لتأهيل القيادات . . ما الفائدة من هذا البرنامج اذا لم يكن يرتكز على ثورة تعليمية في مصر . . برنامج تأهيل القيادات أمرٌ هام . . لكنه يجب أن يكون مسبوقاً أو مصحوباً بثورة حقيقية في التعليم بمصر ترفع مستوى الطلاب ، وتقدم لهم العلوم التي تتوافق مع إحتياجات العصر الجديد الذي نعيشه .
علينا أن نتفادى إرتباط البرنامج الرئاسي لتأهيل القيادات بشخص الرئيس السيسي ، فالرئيس لن يبقى ، لكن البرنامج يجب أن يبقى . . فكم من برامج ومنظمات مشابهة تكونت في عصور الرؤساء السابقين ، ثم إختفت حالياً . . لعلنا نتذكر منظمة الشباب الإشتراكي العربي التي إرتبطت بوجود الرئيس عبد الناصر ، وبقيت عدة سنوات ، فلما زال هذا الوجود إختفت هذه المنظمة خلال ساعات معدودة ، ضمن إختفاء منظومة الناصرية والإشتراكية في مصر .
إذا كان قانون الفيزياء يقول : إنّ الضغط يولد الإنفجار ، فقانون الإجتماع يقول : إنّ الضغط يولد النفاق الاجتماعي . . لن يستقيم حالنا إلا بعد أن نتخلص من نغمة الرئيس الرب ، ونتعامل مع رئيس الجمهورية على أنه موظف كبير بدرجة رئيس جمهورية ، ولا نخشى أن نقول له أخطأت عندما يخطئ ، ونصفق له عندما يجيد عمله . . لكننا نصفق للرئيس السيسي رغم الفشل الكبير الذي حصده في أمور خطيرة تمس أمن مصر ومستقبلها مثل فشل مفاوضات سد النهضة ، وعدم التعامل الحاسم مع الإرهابيين ، وفشل مشروع إستصلاح مليون ونصف مليون فداناً في الصحراء ، وعدم الإهتمام بالتعليم والصحة ، وإرجاء التعامل معهما الى مرحلة لاحقة رغم أن البداية كانت يجب أن تكون بهما ، ولن ننسى قمة الفشل عندما تنازلنا عن أرض مصرية في جزيرتي تيران وصنافير للسعودية .
يا أهل النفاق !! تلك هي أرضكم . . وذلك هو غرسكم . . ليس الذنب ذنبي . . إنه ذنب الذي سكب النفاق والغش والخديعة في نهر النيل . . ماذا يفعل ذو مروءة بين أهل الخداع في ارض النفاق ؟ ما فعلت سوى أن طفت بها وعرضتُ على سبيل العينة بعضَ ما بها . . فإنّ رأيتموه قبيحاً مشوهاً ، فلا تلوموني بل لوموا أنفسكم . . لوموا الأصل ولا تلوموا المرآة . . أيها المنافقون !! هذه قصتكم ، ومن كان منكم بلا نفاق فليرجمني بحجر