الموت أحد الحقائق الأساسية في الكون ، يشهدها الإنسان في داخله وحوله .. ومع اقتراب حقيقة الموت من الإنسان فلا يزال الموت لغزاً يحاول الإنسان تفسيره . اهتم بالموت علماء وفلاسفة شتى .. ولكن جهود الإنسان تتوقف عادة عند نقطة محددة هي ما يعرف ببوابة الموت أو لحظة دخول العالم الآخر في تقديرهم .. وبعضهم كان يسجل خلجات مشاعره وهو على فراش الاحتضار .. ثم جاءت اللحظة الحاسمة وتوقفت جوارحه وظلت بوابة الموت لغزاً لكل الأحياء لا يعرفه إلا من ذاق الموت .. ومع الأسف فإن الذي يدخل هذه البوابة لن يتحدث عنها للآخرين .. ويتعين على كل منا أن ينتظر هذه اللحظة التي شهدها قبله كل الموتى وسيشهدها بعده باقي البشر إلى قيام الساعة .
أسئلة كثيرة عن الموت وألغازه تتداخل فيها الحقائق والأوهام ، ونصيب المبالغة والخرافة أكبر من الحقيقة، وبها يكون الموت مرعباً لمن لا يزالون على قيد الحياة .. وفى خضم التساؤلات والاجتهادات والمبالغات يتناسى الجميع أن صاحب الحق الوحيد في الحديث عن الموت هو الله وحده الذي خلق الموت والحياة ، وأن القرآن الكريم وهو الصادق المصدق _ هو وحده المصدر الوحيد الذي نستخلص منه حقائق الموت والذي نحتكم إليه في أساطيرنا عن الموت .
الموت قضية الساعة وكل ساعة والأسئلة عنه لا تنتهي .. ولكننا لن نفرض أمنياتنا على القرآن لنجد كل إجابة على كل تساؤل فالكثير من تساؤلاتنا عن الموت تنبع من خرافتنا نفسها عن الموت .. المنهج الحق في تعاملنا مع حقائق القرآن عن الموت أن نتدبر الآيات التي تتحدث عن الموت ونستخلص منها الحقائق كما هي ، موقنين أن الله تعالى يعطينا المتاح لنا من الحقائق التي تقبلها عقولنا في هذه الدنيا .
إن حقائق الموت في القرآن وحده .. والخروج عن القرآن في قضية الموت إنما هو دخول في باب الخرافة والأساطير .. وهل هناك حق آخر إلى جانب كتاب الله :
ومن أصدق من الله حديثاً ، ومن أصدق من الله قيلاً
صدق الله العظيم
الفصل الأول
(( ماهية الموت ))
بين الموت والحياة .
بين الموت والقتل .
بين الموت والوفاة .
موت الجسد وموت النفس .
الموت من صفات الخلق لا الخالق .
رسل الموت .
عزرائيل هل هو ملك الموت .
بين تمنى الموت والفرار منه .
لا تأجيل لموعد الموت .
الوصية عند الموت .
ماهية الموت
الموت أكبر من أن نضع له تعريفاً جامعاً مانعاً . وربما يكون من الأفضل أن نقترب من الموت بعد مقارنات بينه وبين نقيضه “الحياة ” وبين مترادفاته ” الوفاة ” ” والقتل ” .
بين الحياة والموت
لنتعرف على العلاقة الأولية بين الحياة والموت علينا بإجراء هذه التجربة : خذ حفنة من التراب الجاف ثم أخلطها بالماء وأفحصها تحت الميكروسكوب تجد أن التراب الذي كان ميتاً قد نبتت فيه فجأة الحياة ممثلة في آلاف من الكائنات الدقيقة ، بكتيريا وحشرات متناهية الصغر بدأت كلها دورة جديدة من الحياة بعد الموت ، والسبب وجود الماء .
إن هناك حيوانات ونباتات دنيئة تكمل دورة حياتها في أيام قليلة أو خلال ساعات ثم تكف عن الحركة والحياة الظاهرة لتنقسم وتتوالد وإذا ما جفت بركة الماء أو سادت ظروف سيئة في البيئة فإن مثل هذه الحيوانات تتحوصل أي تغلف نفسها بغلاف سميك وينكمش نشاطها الحيوي _ أي تدخل مرحلة الموت _ ثم إذا جاء الماء لتلك الحويصلات أو الجراثيم الساكنة دبت فيها الحياة فجأة .
وقد سبق القرآن الكريم إلى تقرير هذه الظاهرة العلمية في عدة آيات تتحدث عن قدرة الخالق جلا وعلا في إخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي وإحياء الأرض الميتة عندما ينزل عليها الماء الذي هو سر الحياة في الكون ..اقرأ في ذلك :
“يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها “. الروم 19 .
“تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي” آل عمران 27
“إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون ” الأنعام 95
“ومن ءايته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحي الموتى إنه على كل شيء قدير ” فصلت 39
“وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج “.
الحج 5
جاءت تلك الآيات منذ ألف وأربعمائة عام بهذه الظاهرة العلمية لتثبت قدرة الخالق ولتدعو المسلمين والبشر لأن يقدروا الله حق قدره ولتقرب للعقل البشرى إمكانية البعث بعد الموت.
فالموت مرحلة من مراحل الحياة المتجددة، والحياة خمود في قصة الموت .. والحياة والموت إحدى الأسرار الهائلة في هذا الكون .
وهناك أنواع عديدة من الموت وهناك درجات مختلفة من الحياة ، هناك كائنات متناهية الصغر يبلغ قطرها نحو عشرة أجزاء من المليون من المليمتر وهى تنقل أمراضاً معينة للإنسان والحيوان والنبات مثل مرض الأنفلونزا وشلل الأطفال ..وتسمى بالفيروسات ومع دقة حجمها فهى شديدة الشراسة ولها قابلية عجيبة في مواجهة الظروف ومقاومة المضادات الحيوية … والحرب إلى الآن مستمرة بين فيروس الأنفلونزا وعقول البشر ، ودائماً ما ينتصر فيروس الأنفلونزا ويظهر بآلاف الأنواع والأشكال ليفسد مفعول كل دواء جديد تتمخض عنه عقول العلماء .. ولا يزال العلم مشغولاً بمحاربة فيروس الإيدز وإذا وصل لعلاج ناجح له فسينجح الإيدز في إنتاج فصائل جديدة منه لا يجدي معها هذا العلاج .
وما يهمنا في هذه الفيروسات أنها المثل الأدنى للحياة .. إذ أنها تتبلور أحياناً كبلورات الملح وتتخذ بالفعل شكل البلورات أي تتحول إلى جماد ميت دون أن تفقد قوتها في نقل العدوى ، ولكن من ناحية أخرى تتكاثر ويتضاعف عددها ، وبتلك الصفات تكون تلك الكائنات الشديدة الشراسة والذكاء في مرحلة وسطى بين الكائنات الحية والكائنات غير الحية وتلك إحدى عجائب الحياة والموت أن يجتمع الموت والحياة في كائن واحد .. وهو أدق الكائنات ..
وليس ذلك بمستغرب إذ أنه يجرى في داخل الجسد الإنساني نفسه .. لنفترض أنك عزيزي القارىء في الثلاثين من عمرك مكتمل الرجولة والصحة ، ولعلك نظرت إلى صورة فوتوغرافية التقطوها لك حين كان عمرك أسبوعاً واحداً . ولو تأملت هذه الصورة لأيقنت أن ذلك الجسم اللدن الضعيف الذي كان لك وقتها لا يمت بأي صلة لك الآن .. ولو تتبعت صوراً أخرى التقطوها لك وأنت في سن العاشرة ثم في العشرين لأيقنت أنك في كل مرحلة تكتسب جسماً جديداً ثم إذا وصلت إلى الخمسين أو الستين صار لك جسد آخر .. تلك حقيقة نلمسها في أنفسنا .. لاين ذهب ذلك الجسد الطفل ؟ باختصار. مات .! أين ذهب ذلك الجسد المراهق حين نبلغ الأربعين ؟ مضى ! . أين ذهب ذلك الجسد القوى بعد أن نبلغ من الكبر عتياً ؟ ولى .
هناك مراحل نمو في الجسد الإنساني يكمل بعضها بعضاً ولا يستطيع العلم أن ينقذ الإنسان من وصوله للشيخوخة والضعف ، لأنها مراحل حياة وموت تتكرر داخل الجسد ولا حيلة مع الموت .. يقول تعالى ” الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبةً يخلق ما يشاء وهو العليم القدير ” الروم 54
” يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلاً يعلم من بعد علم شيئا ” الحج 5ً
والآية الأخيرة تذهب إلى ابعد مما قلناه ..قارن نفسك الآن بنفسك حين كنت جنيناً في بطن أمك ؟ والآية تقرب لعقل الإنسان أمكانية البعث لأنه ببساطة يحدث تلقائياً في جسد الإنسان الذي يشهد الحياة ثم الموت ثم إعادة الحياة أو البعث ..
ويقرر العلم أن الجسد الانسانى يغير خلاياه خمسين مرة تقريباً خلال عمرة ..ولذلك يحتاج الإنسان إلى البروتين في غذائه ووظيفة البروتين هو تجديد الخلايا التالفة والإحلال والإبدال فيها ..
ويقول تعالى ” افرأيتم ما تمنون . ءأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون .نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين .على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون . ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون”الواقعة58 :62
الله قدر بيننا الموت الذي يجرى في داخلنا . ويكفى أن يتذكر الإنسان نشأته الأولى طفلاً واهن الجسد ، ويقارن بين جسده الآن وبين نشأته الأولى ليعرف أن ذلك الجسد الواهن قد مات فيه منذ زمن بعيد . الموت مخلوق في داخلنا ، في داخل خلايانا ، فكل الخلايا تموت لتحل محلها خلايا جديدة ،والتغذية بالبروتينات الحيوانية – بالذات – ضروري لتعويض الميت والتالف من الخلايا ، الخلية الحية تحوى في داخلها عوامل فنائها المادية ، إذن الموت يعيش في داخل الخلية الحية .. إذن الموت مخلوق مادي داخلنا ، وليس مجرد عدم ،وكثيراً ما توقف المفسرون عند قوله تعالى : ” تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير . الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور “
وتساءلوا : نفهم كيف خلق الله الحياة .ولكن كيف خلق الموت ، والموت عدم وفناء ؟؟
لم يعرفوا أن الموت مخلوق في داخلنا ولذلك لا نستطيع الهرب منه ” أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ” النساء78.
وهناك أنواع للحياة كما أن هناك أنواع للموت ، الموت الذي يحدث لخلايا الجسد الإنساني الحي يختلف عن الموت الذي يحدث للإنسان نفسه في نهاية عمره . والحياة التي يتحرك بها الحيوان المنوي في اتجاه البويضة غير الحياة التي ينتفض بها الجنين البشرى عند اكتمال نموه ونفخ النفس فيه . وبالتالي فالحياة التي تنبض في الكائنات الدقيقة ذات الخلية الواحدة وفى الفيروسات – أصغر المخلوقات المعروفة – تختلف عن طبيعة الحياة في الثدييات ومنها الإنسان ، وهناك أكثر من ذلك ، الذرة بما فيها من نواة وإلكترون وحركة وطاقة وقوة هائلة .. ألا تعتبر نوعاً من الحياة . والشمس التي تجرى لمستقر لها وتوابعها . والنجوم السيارة .. أليست تعتبر نوعاً من الحياة ؟ إن الذرات الدقيقة تدخل في تفاعلات كيميائية لتكون مواد جديدة .. والنجم يبدأ صغيراً ثم يصل بعد ملايين السنين إلى منتهى قوته ونشاطه ،ثم ينفجر ويموت . ويتحول إلى ثقب اسود في الكون .. يتحول إلى طاقة – غير مادية – يحبس كل شيء في داخله ويبتلع كل شيء حتى الضوء .. أي بالتعبير الدارج يتحول جسم النجم بعد موته إلى روح شريرة تحل لعنتها بكل من يقترب منها .. إن ماهية الموت والحياة أعقد بكثير مما نتحمل . لا نستطيع أن نتصور أبعاد الموت وأبعاد الحياة والحدود التي تقف بينهما ، سواء في أدق فيروس أو أضخم نجم .
لذلك فإن القرآن يستعمل لفظ الموت على سبيل المجاز ويستعمله على سبيل الحقيقة المادية .. يقول تعالى عن المشرك الذي لا يستجيب لدعوة الحق : ” إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ” الأنعام 36 ، ” إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء ” النمل 80 ,” فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء ” الروم 52
ويقول تعالى عن الذي سمع الحق واستجاب له :
” أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون “الأنعام 122
وحقيقة الأمر أن لا مجاز هنا .. فالمشرك الذي لا يستجيب إنما هو ميت، إذ أن للموت أنواعا ، والعادة أن الناس فقط يهتمون بموت الجسد عند نهاية العمر وينسون ما عداه خصوصاً الموت المعنوي ، حيث تحيا نفس الإنسان بالإيمان فيشرق فيها نور الهداية ، والنفس كائن مجهول لا يعلمه إلا الخالق جل وعلا.
بين الموت والقتل :
تنتهي حياة الإنسان في هذه الدنيا بالموت أو بالقتل . وقد اصطلح البشر على أنه إذا انتهت حياة الإنسان نهاية طبيعية بالمرض ؛ فإن ذلك معناه الموت . أما إذا انتهت حياته بإزهاق نفسه من مصدر خارجي كان ذلك قتلاً . وفى كل الأحوال يموت جسد الإنسان وتدخل نفسه إلى المجهول أو البرزخ . في تقرير الفارق بين الموت الطبيعي العادي وبين القتل الطارئ يقول تعالى :
” والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقاً حسناً ” الحج 58
” وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ” آل عمران 144
“ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون ” آل عمران 158.
فالقرآن يستعمل”أو” ليبين نوعية الحالة التي تنتهي بها حياة الإنسان هل هى الموت الطبيعي الآتي من داخل الإنسان أم القتل المفاجىء الآتي من مصدر خارجي .
ويتخيل الإنسان أن القتل قد قطع أجل الإنسان لأنه حدث من مؤثر خارجي ، بيد إنسان آخر قتل أخاه الإنسان أو تسبب في قتله . ويتحمل الجاني أو المتسبب في القتل مسئولية أنه قطع أجل المقتول . وأن المقتول كان مقدراً أن يعيش أطول لولا أن حدث له طارئ القتل ، ويقرر القرآن أن القاتل لا يقطع أجل المقتول ، وأن المقتول بلغ نهاية أجله المقدر له سلفاً في علم الله وأن ذلك بالطبع لا ينفى مسئولية الجاني القاتل لأخيه الإنسان ظلماً .
وفى غزوة أحد التي قُتل فيها عشرات المسلمين أعترض بعض المنافقين من أتباع عبد الله بن أبى ، وقد كان عبد الله بن أبى يرى أن يرجع المسلمون ليتحصنوا بالمدينة ، وقد رجع فعلاً بأصحابه في أثناء المسيرة لأحد .. وبعد الهزيمة ومقتل الكثير من المسلمين قال المنافقون : لو أطاعونا ورجعوا معنا ما قتلوا .. وجاء الرد من الله بأنه ليس في طاقة أحد من البشر أن يهرب من مكان موته أو موضع مصرعه اقرأ في ذلك قوله تعالى : “وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم “
آل عمران 154
أي لو كان أولئك في بيوتهم لخرجوا رغم أنوفهم إلى مكان مصرعهم الذي لا مفر منه . وتأتى الآية التالية لتحذر المؤمنين من نفس المقالة : ” يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرةً في قلوبهم والله يحيى ويميت والله بما تعملون بصير “
ولأن الله هو الذي يحيى ويميت فهو الذي قدر سلفاً موعد ومكان الموت سواء كان موتاً طبيعياً أو قتلاً ، ومن يعترض على ذلك لا يستطيع أن يدرأ الموت عن نفسه :
” الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ”
آل عمران 168
وفى غزوة الأحزاب كان بعض المنافقين يفر إلى بيته خوف القتل فقال تعالى :
” قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل ”
الأحزاب 16
وتقول الآية التالية :
” قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءاً أو أراد بكم رحمةً ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً “
ليس للقاتل في جريمة القتل إلا ما كسبت يداه من الإثم ،ولله وحده تحديد أجل الإنسان ، والإنسان لا يعلم عن الغيب شيء . وأجل الإنسان من مظاهر الغيب الذي لا يعلمه إلا الله وحده . والله هو المحيى المميت .. يقول تعالى عن قتلى المشركين في بدر :
” فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم “
الأنفال 17
ويقول تعالى عن الإنسان بوجه عام :
” ثم أماته, فأقبره , “
عبس 21
بين الموت والوفاة
الوفاة بالنسبة للإنسان أعم من الموت . الوفاة تعنى أن الإنسان وفى ما له وما عليه ، أما الموت فهو نهاية حياته في هذه الدنيا . ومن الطبيعي أن كل أعمال الإنسان وأجله والمقدر له وعليه ينتهي أو يوفى بنهاية حياته ، وهنا يجتمع الموت مع الوفاة . فيقال : توفى فلان أو مات . ولكن للوفاة معنى خاص يتميز به عن الموت .. فالإنسان حين يخلد للنوم وتذهب نفسه إلى عالم البرزخ يكون عمله في ذلك اليوم المنصرم قد وفى ، ويقال للإنسان النائم حينئذ أنه قد وفى عمله والمقدر له وعليه في اليوم الذي انتهى بنومه ، يؤخذ ذلك من قوله تعالى :
” وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون”
الأنعام 60
فالقرآن يصف نوم الإنسان بالليل بأنه وفاة ” وهو الذي يتوفاكم بالليل” وهى وفاة اى توفية لذلك اليوم الذي انقضى “ويعلم ما جرحتم بالنهار ” ويصف القرآن يقظة الإنسان بأنها البعثة ” وثم يبعثكم فيه ” وتتكرر هذه العملية إلى أن يأتي الموت الذي تنتهي به الحياة في أجل محدد ومسمى عند الله ” ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى “
وعن الفرق بين تلك الوفاة المتقطعة _ أي النوم _ وبين الموت النهائي يقول تعالى :
” الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى “
الزمر 42
فالآية الكريمة هنا تقرر أن الوفاة أعم من الموت . فالوفاة تشمل الموت النهائي ، وتشمل النوم ، والله يتوفى الأنفس التي انتهى أجلها بالموت ويتوفى الأنفس التي تخلد للنوم ، وحين يحتفظ بالنفس التي قضى عليها الموت فإنه يرسل بالنفس النائمة ليستيقظ صاحبها في الصباح .
موت الجسد وموت النفس :
للموت علامة عضوية بالجسد .. فمعناه أن ذلك الجسد قد فقد القدرة على الحياة بمؤثر داخلي كالمرض أو خارجي فجائي بالقتل .. وتحديد وقت الموت للجسد عند الأطباء هو بتوقف المخ عن العمل بضع دقائق . وإن كان الأمر لا يزال محل البحث والدراسة .. وقد جاءنا التقدم العلمي بظاهرة غريبة وهي أولئك الموتى الأحياء ، ممن فقدوا الوعي مدة طويلة وانتهت علاقاتهم بالأحياء غير أن الأجهزة العلمية المتطورة تقوم بالعمليات الضرورية لبقاء الجسد حيا فترة طويلة لابد أن يعقبها عجز الجسد المنهك عن الاستمرار فيذبل بعد أن يكون المريض الميت قد أستهلك كل أموال أهله في تلك الفترة . ويثور جدل الآن ، هل من الرأفة أن يظل ذلك المريض الميت هكذا أم يجب قطع شرايين الحياة الصناعية لذلك الجسد الذي ” أنتهي عمره الافتراضي “؟
الذي يهمنا هنا أن النفس وهى المعيار الحقيقي في تحديد وفاة الإنسان وموته قد تركت ذلك الجسد وأصبح صاحبه ميتا ، وما تقوم به أساليب التكنولوجيا المتطورة من أعطاء الجسد المتهالك تغذية صناعية مؤقتة وتنفسا صناعيا لن يجدي شيئا في نهاية الأمر لأن الأنسجة الميتة في الجسد لن تصمد طويلا مهما أوتيت من وسائل حياة صناعية .
وقد فطن العلم الحديث إلى العلاقة العضوية بين الجسد وتغذيته الصناعية التي تمكنه من الاستمرار في حياة مؤقتة حتى بعد تدمير معظم خلايا المخ ودخوله في غيبوبة . الأمر الذي خلق فجوة بيم موت الجسد وموت النفس ، ثم عرفوا أنه توقف المخ .. والآن يحاولون بث الحياة بقوة التكنولوجيا في جسد متهالك ونفس تركت الجسد الذي إن عاش قليلا فلأن حياته تستمر من الغذاء صناعيا أو طبيعيا ..
وقد ذكر القرآن الكريم الجسد مرتبطا بالطعام مشير إلى ذلك الارتباط العضوي بين الجسد والطعام فقال تعالى عن موت الأنبياء : ” وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين ” الأنبياء 8 .
أي كان الأنبياء جسدا يأكل الطعام مثل باقي البشر ، والجميع سيموتون .
الموت من صفات الخلق لا الخالق
من بديهيات الإيمان أن الخالق جل وعلا هو الحي القيوم الذي لا تدركه سنة ولا نوم ولا يلحقه موت :
” الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم ))
البقرة 255
وإذا كانت لا تدركه سنة ـ أي نوم خفيف ـ ولا نوم فمعنى ذلك أن الموت مستحيل عليه
“وتوكل على الحي الذي لا يموت “
الفرقان 58
وقد يوصف الإنسان أو أي كائن حي بأنه (( حي )) ولكن لا يقال له (( الحي )) لأن الحي لا يكون إلا الله وحده .. فأنا حي أي أحيا حياة مؤقتة يتخللها الموت النسبي وهو النوم ، وموت الخلايا داخل جسدي ، وتنتهي هذه الحياة المؤقتة بالموت الكامل للجسد ورجوع نفسي للبرزخ الذي جاءت منه . أما الله فهو (( الحي )) أي الأول والآخر الذي لا يموت ولا تدركه سنة ولا نوم وما عداه تعالى فهو هالك .
” كل شيء هالك إلا وجهه” القصص 88
“كل من عليها فان (26) ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام “
الرحمن 26 : 27
قد تكون تلك الحقائق بديهية لا جدال فيها ، ولكن لابد من ذكرها لننفى تلك العقائد التي تجعل بعض البشر يظلون أحياء في قبورهم . أي يشاركون الله في صفة الحي الذي لا يموت .
ومن أسف فإن هذه العقيدة تشكل التدين العملي لكثير من المسلمين الذين يذهبون للتوسل بصور الموتى اعتقاداً منهم إن أولئك الموتى أحياء في قبورهم يسمعون الآهات والتضرعات والصلوات التي ينبغي أن يتوجه بها المؤمن لله وحده . والمفجع أنهم يعتقدون أن النبي حي في قبره قريب من أولئك المتوسلين به يجيب دعوة الداع إذا دعاه ، وأن أعمال البشر تعرض عليه فإذا وجدها خيراً حمد الله وإن كانت غير ذلك استغفر وشفع لأصحابها .
وأولئك يسيئون للنبي من حيث لا يدرون ويضعونه في موضع لا يرتضونه هم لأنفسهم .. فمعنى اعتقادهم أن النبي حي في قبره بزعمهم أنهم حكموا على النبي بأن يظل سجيناً محجوراً عليه في قبره بزعمهم أنهم حكموا على النبي بأن يظل سجيناً محجورا ً عليه في حفرة تحت الأرض منذ وقت وفاته إلى قيام الساعة .. وهو حكم جائز لا يرتضيه أحدهم لنفسه فكيف يرتضيه للنبي ؟
وحين أراد الله تكريم بنى آدم علم قابيل كيف يوارى سوأة أخيه المقتول ، وأصبح من الإكرام للمتوفى أن يوارى جسده بالتراب حتى يتحلل بعيداً عن أنوف الأحياء وعن عيونهم . ولكن الله استثنى من هذا التكريم فرعون الإمام لكل أصحاب النار ، فأبقى جسده ليكون عبرة فقال تعالى له :
” فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك ءاية “
يونس 92
في بداية الدعوة في مكة والنبي في صراع مع كفار قريش قال تعالى للنبي :
” إنك ميت وإنهم ميتون (30) ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون “
الزمر 92
ولنتأمل في الآيتين : حين نزل قوله تعالى للنبي ” إنك ميت ” كان في بداية الأربعينات .. ولا يزال أمامه عمر طويل قضاه بين مكة والمدينة ، ومع ذلك جاءت الصيغة بالجملة الاسمية “إنك ميت ” ولم تقل له مثلاً ” إنك ستموت ” والجملة الاسمية تفيد الثبوت أي أن الموت ثابت في حقك مهما عشت من عمر . ثم تقول ” وإنهم ميتون ” وتقصد أن أعداءك المشركين ميتون أيضاً وهذا ما نفهمه من الآية التالية :
” ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون “
ولن يختصم مع النبي يوم القيامة إلا أعداؤه ، أبو جهل ، عقبة بن معيط ، أمية بن خلف ، أبو لهب .. الخ . والنظرة السريعة لقوله تعالى ” إنك ميت وإنهم ميتون ” تفيد المساواة بين النبي وأعدائه في استحقاق الموت ، والتأكيد هنا بأن واسمية الجملة حسب المفهوم من فصاحة اللغة العربية .. أي لاشك في أنك ستموت وفى أنهم سيموتون .. والنظرة المتعمقة في قوله تعالى ” إنك ميت وإنهم ميتون ” تجعل التأكيد لموت النبي يزيد عن نظائرها في تأكيد موت المشركين من أعدائه ، فالآية بدأت بالنبي وخاطبت النبي مباشرة فقالت ” إنك ميت ” ثم ثنت بالمشركين وتحدثت عنهم بضمير الغيبة وليس بضمير المخاطب ، وضمير المخاطب أعرف من ضمير الغائب .. والتركيب القرآني غاية في الدقة والفصاحة ولم يأت عبثاً ـ سبحان الله عن العبث ـ وإنما جاء ذلك التركيب اللغوي ليرد على دعاوى علم الله أنها ستظهر بعد القرآن تشيع أن النبي حي في قبره فأراد الله تعالى أن يكون كتابه حجة عليهم إلى يوم القيامة .
لن يدعى أحد أن أبا جهل حي في قبره .. وإنما يدعى الكثيرون أن النبي (ص) حي في قبره .. لذا كان لابد من زيادة جرعة التأكيدات في استحقاقه الموت أكثر من التأكيد على موت أعدائه الذين لا خلاف على استحقاقهم الموت ، وقد ذكرت الآية موتهم لتزيد من يقين المؤمن بأن محمداً (ص) ميت لا محالة وأن موته سيكون طبيعياً شأن كل إنسان .
وعطاء هذه الآية ” إنك ميت وإنهم ميتون ” لم ينفذ بعد .. إن الآية ببساطة أخبرت النبي والمؤمنين معه في مكة أنه لن يقتل في سبيل الله ولكن سيموت على فراشه موته طبيعية .. لأن القرآن ينهى أن نقول على من قتل في سبيل الله بأنه ميت :
“ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون )) البقرة 154 .
بل ينهانا ربنا جلا وعلا أن نحسبهم ضمن الأموات فيقول بلهجة التأكيد الشديد :
” ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون “
آل عمران 169
المقتول في سبيل الله ـ فقط ـ هو الذي يستحق الحياة عند الله وإذا وصفناه بأنه ميت فقد عصينا أمر الله في القرآن .. ولكن في نفس الوقت فالقرآن يخبر النبي بأنه ميت . وعلينا أن نؤمن بذلك وإلا فقد كذبنا آيات الله .. وليس لنا إلا التسليم وأن نقول ” سمعنا وأطعنا ” كان الجاهليون في عصر النبي يؤمنون بحياة الأولياء في قبورهم ويتقربون إليهم بالقرابين والنذور ويتوسلون بهم والله تعالى يقول عن هذه الآلهة الموتى :
” والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون (20) أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون “
النحل 20 ، 21 .
أي فهؤلاء الأولياء أموات غير أحياء ولا يشعرون متى سيبعثون من قبورهم . ومع ذلك فقد كان الجاهليون يخيفون النبي من الاعتراض على هؤلاء الأولياء الموتى ” وسرهم الباتع ” فنزلت الآيات تأمر النبي أن يتحدى أولئك المشركين وآلهتهم الموتى الذين أصبحوا تراباً ، يقول تعالى :
” إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين (194) الهم أرجل يمشون بها أم لهم أيدي يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون “
الأعراف 194، 195 .
بل إن الجاهلين منحوا أنفسهم أيضاً حق الحياة في القبر والخلود فقال تعالى للنبي :
“وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإين مت فهم الخالدون (34) كل نفس ذائقة الموت “
الأنبياء 35: 34
وفعلاً .. إذا كان النبي سيموت . أفيكون الخلد من نصيب المشركين وأوليائهم ؟ ولا يزال السؤال مطروحاً .
وقد تحدث القرآن عن موت الأنبياء قبل محمد (ص) مثل : عيسى :
“والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً ” مريم 33
يحيى :
” وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً “
مريم 15
سليمان :
” فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته “
سبأ 14
يوسف :
” أنت ولى في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين “
يوسف 101
ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولاً “
غافر 34
يعقوب :
” أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت “
البقرة 133
بل تحدث القرآن عن مصرع بعض الأنبياء
” إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق “
آل عمران 21
” ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق “
البقرة 61
” قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين “
آل عمران 183
إذن ليست لجسد النبي حصانة تمنع عنه القتل ، ونعرف ما حدث لمحمد (ص) في غزوة أحد ، وهلع المسلمون فيها مخافة أن يكون قد قتله المشركون ، ونزل القرآن يعتب عليهم :
” وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ” آل عمران 144
ولم يثبت في القرآن أن أجساد الأنبياء لها حصانة بعد موتهم تدفع عنهم التحلل والتحول إلى تراب .وحين أمات الله النبي سليمان أراد أن يجعل من جسده الميت برهاناً للجن يثبت أنهم لا يعلمون الغيب ، فظل جسده الميت متصلباً مرتكزاً على عصا تمنعه من السقوط ، ولما تآكلت العصا خر الجسد على وجهه وعرفت الجن المسخرة أن سليمان مات من زمن .
” فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ” سبأ14
وتصلب الجسد الميت أحدى مراحل التحلل ويعقبها انفجار الأحشاء وتحلل الجثة إلى غازات وعناصر أولية تعود للأرض بفعل جراثيم التعفن والتحلل .. وكل محسوب ومسجل ، كل ذرة من الجسد الميت يعرف الله مستقرها ومآلها ، يقول تعالى لمنكري البعث :
“بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب (2) أءذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد (3) قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ ) (ق2 :4)
ويعتقد البعض أن الولي المدفون في ضريحه يظل جسداً حياً يتلألأ نوراً .وذلك إفك يرفضه القرآن.والدليل في قصة أهل الكهف الذين كانوا أولياء لله وصفهم القرآن بأنهم :
“إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدىً (13) وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططاً ” الكهف 14:13
وقد ظلوا في الكهف ثلثمائة سنين وازدادوا تسعاً ..
والسؤال كيف كانت هيئة أولئك الفتية النيام – وليس الأموات – حين كانوا رقوداً ؟ كانت هيئتهم بشعة ، تغيرت وجوههم إلى ملامح الموت المرعب ، يقول تعالى :
” لو أطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً “الكهف 18
إذن ما يحدث للجسد عند الموت لا علاقة له بصلاح صاحبه أو فساده .
ومعظم الأضرحة المنسوبة لمشاهير من الصحابة والتابعين في مصر أضرحة مزورة كما يقول المحققون من العلماء ولكن نفترض جدلاً أن صاحب الضريح مدفون فعلاً في داخله . فهل يمكن أن يتحمل الناس مجرد فكرة أن يخرج لهم من تحت التراب ليقول أهلاً وسهلاً ؟ وهل يستطيع عشاق ذلك الولي المدفون أن ينظروا إلى وجه الميت ؟ أم هل يا ترى سيولون منه فراراً وسيملأون منه رعباً ؟
وفى النهاية فإن التبرك والتمسح لا يصل منه شيء إلى رفات الولي الميت وعظامه الرميم ، وإنما بالطبع يكون التبرك من نصيب المقصورة التي تمثل ذلك الولي .. وهذه المقصورة تتكون من أخشاب وزجاج وأحجار ومسامير ، وكلها مواد بناء لا تختلف عن نظيرتها في أي بناء آخر ، ولكنها اكتسبت قدسية مزورة بفعل الشيطان الذي يتلاعب بعقائد الناس .. ولا شك أن القفل الموضوع على باب الضريح يحوز على أكبر قسط من التبرك والتمسح .. مع أنه غالباً مكتوب عليه made in china .
رسل الموت
لا يتحمل الكون تجلى الله له ..
” فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين”
الأعراف 143
ولكن أفعال المخلوقات تجيء من قوة خلقها الله في تلك المخلوقات ، والفعل قد ينسب لله باعتباره هو الخالق الأصلي للمخلوق صاحب الفعل ، وقد ينسب الفعل للمخلوق نفسه الذي صدر عنه الفعل .. فالأكل والشرب مثلاً من أفعال البشر التي تقوم عليها حياتهم ، والقرآن ينسب ذلك لهم فيقول مثلاً عن الأنبياء :
” وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق “
الفرقان 20
وتارة يجعل القرآن أن الله هو الذي يطعم النبي وغيره فيقول إبراهيم عن ربه ” والذي هو يطعمني ويسقين “
الشعراء 79
للبشر من أفعالهم نصيب المسئولية حيث خلقهم الله أحراراً يمكنهم الطاعة وبإمكانهم العصيان والكفر والإيمان” الإسراء 107 ، الكهف 29 ، فصلت 40 ” ولكن الله تعالى هو الذي منح أجسادهم تلك القوة التي يصدر عنها الفعل . وحين يكون ذلك الفعل من البشر في طاعة الله يكون متمتعاً بتوفيق الله وهدايته لذلك ينسبه الله تعالى لذاته كأن يقول جلا وعلا عن غزوة بدر :
“فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ” الأنفال 17
وعرش الرحمن هو سلطانه على العالمين ،ويهيمن الرحمن على ذلك العرش بملائكته ، منهم من يكون تخصصه بأبناء آدم مثل الكرام الكاتبين والحفظة ورسل الوحي .. ثم رسل الموت الذين يرسلهم الله لقبض الأنفس حين الموت . والقرآن يسند ذلك الفعل ـ وهو الإماتة ـ لله باعتباره الذي خلق القوة ، وأسندها للملائكة التي تقوم بهذه المهمة .. فيقول تعالى :
“وأنه هو أمات وأحيا ” النجم 44
” الله يتوفى الأنفس حين موتها ” الزمر 42
” ثم أماته فأقبره ” عبس 21
” ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم ” يونس 104
وتارة يسند القرآن ذلك الفعل للملائكة الذين خولهم الله هذه المهمة
فيقول تعالى :
” حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا ” الأنعام 61
” حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله ” الأعراف 37
” الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ”
النحل 31
والملاحظ أن القرآن يسند للملائكة فعل الوفاة .. وليس الإماتة ، فالجسد يموت من مرض أو قتل وربما بتدخل بشرى ويأتي دور الملائكة في أنها تتمم الموضوع باستيفاء كل متعلقات الميت من عمل ورزق وأجل وقضاء وقدر .
عزرائيل هل هو ملك الموت :
ومن القرآن نفهم أن ملائكة الموت يسيطر عليهم ملك أوكل الله إليه هذه المهمة :
” قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ” السجدة 11
والمعرف في كتب التراث والمتداول على الألسنة أن ذلك الملك اسمه عزرائيل . وبالطبع لم يرد اسم لملك الموت في القرآن ، والقرآن ذكر أسماء لبعض الملائكة مثل جبريل وميكال ومالك .. وما ورد في القرآن من إشارات تجعلنا نفهم الأصل الذي جاءت منه تسمية ملك الموت بذلك الاسم عزرائيل .
فالمعروف أن إله الموت عند المصريين القدامى كان اسمه ” أوزوريس “وتلك هي الترجمة اليونانية للاسم المصري الأصيل وهو “عزير” حيث تنقلب العين إلى همزة فيتحول اللفظ المصري ” عزير ” إلى ” أوزير ” في اليونانية وتضاف له السين s.
وقد كان المصريون يعبدون عزير ، ونشأ بنو إسرائيل في مصر القديمة وحملوا أوزاراً من الديانة المصرية القديمة ظلت معهم حتى بعد أن شهدوا المعجزات التي أيد الله بها موسى .. من ذلك أنهم عبدوا العجل حين تركهم موسى أي كان تأثرهم بالديانة الفرعونية أقوى من إيمانهم بموسى ومعجزاته .. ثم ما لبثوا أن عادوا لعبادة إله لموت الفرعوني ” عزيز ” فنسبوه لله على أنه ابن لله فقالوا بلغتهم ” ” عزيرائيل ” وكلمة ” ئيل ” معناها عندهم الله .. وإسرائيل يعنى عبد الله .. ثم تسرب ذلك للتراث عند المسلمين مع تحريف بسيط إذ أصبح عزيرائيل عزرائيل فقط ، ولم يعد إلهاً للموت أو أبنا لله وإنما أصبح فقط ملك الموت الذي ترتعب منه الأفئدة وتخشاه القلوب أكبر من خشيتها لله ..
وقد سجل القرآن إتباع اليهود للمصريين القدامى في ذلك حين قال تعالى :
” وقالت اليهود عزيراً ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون ” التوبة 30
والذين كفروا من قبل هم بعض المصريون القدامى الذين نشأ بنوا إسرائيل وعاشوا بينهم قروناً من عصر الهكسوس إلى عصر الرعامسة .
بين تمنى الموت والفرار منه :
في لحظة الضعف الإنساني يتمنى الإنسان الموت . حدث ذلك مع مريم العذراء التي حملت بلا رجل .
” فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً ” مريم 23
وفى حالة العجلة والضعف ينسى الإنسان نفسه فيدعوا على نفسه بالموت أو يدعوا على أقرب الناس إليه بكل شر . والموت في عرف البشر من أهم ملامح الشر ، يقول تعالى :
” ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولاً “
الإسراء 11
وهذا الدعاء المتعجل بالموت لا يجدي في تعجيل الموت لأحد
” ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضى إليهم أجلهم ” يونس 11
وفى غمرة اليأس هذه قد يقع الإنسان في جريمة الانتحار
” ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً (29) ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً وكان ذلك على الله يسيراً “
النساء 29 : 30
إلا أن ذلك المنتحر إذا دخل في عملية الموت حاول بكل ما تبقى لديه من قوة أن ينقذ نفسه ، إذ أن غريزة البقاء في داخله أقوى من لحظة الضعف الطارئة .
وقد كان بعض الصحابة يتمنى الموت في سبيل الله بعد غزوة بدر ثم أتيح له أن يرى الموت بعينيه في تجربة ” أحد ” يقول تعالى :
” ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون “(143)
آل عمران 143
وفى المقابل كان بعض المنافقين يفكر بقدميه فيفر طلباً للنجاة بنفسه في غزوة الأحزاب ، وفيهم يقول تعالى :
” قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل ” الأحزاب 16
وكان لبعضهم موقف آخر ” ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لمَ كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن أتقى ولا تظلمون فتيلاً (77) أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ” النساء 77 : 78
والدرس الذي ينبغي أن نتعلمه من الآية أن لا نخاف الموت ولا نتمناه .. فالموت حتمي لا مهرب منه لأنه يعيش في داخلنا ، ونحن إليه سائرون شئنا أم أبينا ، يقول تعالى لنا :
” نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين ” الواقعة 60
ولا يستطيع مخلوق أن يسبق قضاء الله ، والذي يفر من الموت فسيجد الموت أمامه :
” قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ” الجمعة 8
وقد حدث أن قوماً هربوا من الموت فوجدوه في انتظارهم :
“ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم ” البقرة 243
لا تأجيل لموعد الموت :
من محاولات البشر للفرار من الموت اعتقادهم بأنه يمكن تأجيل موعد الموت .
وهناك أساطير صيغت أحاديث تدعى أن الله تعالى عرض على محمد (ص) أن يؤجل موته ، والذين يرددون هذه الرواية المضحكة لم يسألوا أنفسهم أين كان الراوي لهذه الرواية الخيالية ؟ هل كان ساعة احتضار النبي شاهداً على ذلك الحوار الذي دار بين الله ورسوله . وروايات من نفس القبيل عن موت نوح .. ولكن هناك رواية في التراث يضحك منها الحزين تقول إن موسى حين جاءه ملك الموت ضربه موسى على عينه ففقآها فرجع ملك الموت إلى الله شاكياً .. الخ وصيغت كرامة لأحد الأولياء الصوفية على منوال هذه الأسطورة ، تقول إن أحد الأولياء جاء ملك الموت يقبض نفس ابنه فقلعه الولي من يد ملك الموت وأنقذ ابنه من الموت وصرخ في وجه ملك الموت ” ارجع إلى ربك ” فرجع ملك الموت كاسف البال حزيناً وعاش ابن الولي بعدها ثلاثين عاماً الأسطورة موجودة في الطبقات الكبرى للشعراني
2/123 ط صبيح .
هذه الأساطير تبالغ في تقديس البشر بنفس القدر الذي تنتقص فيه من التقديس الواجب لله وحده .. وصدق الله العظيم .
” وما قدروا الله حق قدره ” الأنعام 91 ، الزمر 67
“ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوى عزيز ” الحج 74
وهذه الأساطير صيغت لتكذب بآيات الله التي تؤكد أنه لا تأجيل لموعد الموت ومنها .
” فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ” الأعراف 34
” إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون ” نوح 4
” ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها ” المنافقون 11
وحتى لا يتوهم أحد أن بمقدور بشر أن يبطش بملك الموت يقول رب العزة :
” وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ” الأنعام 61
إن تحديد وقت الوفاة لكل إنسان إنما هو بإذن الله وحده :
” وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً ”
آل عمران 145
ولا يملك بشر أن يبدل قضاء الله يقول تعالى :
” ما يبدل القول لدى وما أنا بظلام للعبيد ” ق 29
وهناك عبارات تقال للمجاملة في مناسبات العزاء تعبر عن أمنيات البشر في تأجيل الموت .. وهذه العبارات تحمل إلى جانب مجاملة الأحياء من أقارب الميت ، شعوراً بالتعويض بالميت نفسه ، وأشهر تلك العبارات ” البقية في حياتك ” ” خلف لك طول العمر ” . كما لو كان المتوفى قد ترك باختياره بقية من حياته وأقارب الميت أحق بهذه البقية .
وقد تعودت الألسنة على أن تلوك هذه العبارات وتعودت الأفئدة أن تعرف مضمونها مع التسليم بأن لكل أجل كتاباً ويكفى أن المثل الشعبي يقول ” العمر إلى حده ” ” مفيش حد يسيب من عمره حاجة ” .. وكم في حياتنا من تناقضات .
” وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب ” فاطر 11
ففي الآية أكثر من مجرد تحيد الأعمار للبشر . في الآية تأكيد على أن العد التنازلي لعمر الإنسان يبدأ بلحظة ميلاده وقدومه للدنيا .. إذ أنه حين يولد يكون مقدراً له سلفاً العمر الذي سيقضيه في الحياة الدنيا ، وكل دقيقة تمر عليه في هذه الدنيا تكون مسجلة في كتاب حفيظ . وتخيل أن مولوداً قدر الله له خمسين عاماً عمراً له في الدنيا .. ومضى على ولادته خمس دقائق ، أذن بقى له خمسين عاماً إلا خمس دقائق ، ثم إلا عشر دقائق ، وهكذا يبدأ العد التنازلي لحياته منذ اللحظة الأولى للميلاد .
وبعض الأساطير الدينية تجعل بعضهم يعرف موعد ومكان موته ففي أساطير الشاذلية أن أبا الحسن الشاذلي في أثناء رحلته للحج أمر خادمه بأن يتخذ معه فأساً وأجهزة الدفن . فاستغرب الخادم فقال له أبو الحسن الشاذلي : في حميثرة سوف ترى .. ونحن أمام خيارين ، إما أن نصدق بهذه الأسطورة .. وإما أن نصدق بقوله تعالى ” وما تدرى نفس بأي أرض تموت . ” وإما أن نكذب بهذه الأسطورة وإما أن نكذب بقوله تعالى : ” وإلى الله مرجعنا ” .
الوصية عند الموت :
أوجب الله تعالى على المؤمن عند الموت أن يوصى …. والوصية نوعان :
(1) نصيحة بالتمسك بالدين الحنيف وعبادة الله وحده ، وذلك ما كان الأنبياء يفعلونه ، يوصى النبي أبناءه وذريته بالإسلام يقول تعالى :
” ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنى إن الله أصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون (132) أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدى قالوا نعبد إلهك وإله ءابائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون ” البقرة 132 : 133
(2) ثم وصية مالية تتعلق بالتركة ، وفيها يوصى بجزء من تركته للوالدين إذا كانا على قيد الحياة والمستحق من الأقارب سواء كان له في الإرث أم لا ، والمهم أن يراعى ربه وهو على فراش الموت ، يقول تعالى :
” كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين “
البقرة 180
وهذه الوصية واجب مكتوب وحق مفروض على المتقين حين الموت . ومع ذلك فقد أبطلوا الحكم الواجب في هذه الآية واخترعوا بدلاً منها فتوى تقول ” لا وصية لوارث ” .. وأصبحت تلك الفتوى أكثر قدسية من كتاب الله الذي أوجب الوصية وفصل أحكامها .
“البقرة 180 : 182 ” ” المائدة 106 : 108 ” في السفر والحضر .
الفصل الثاني
ماذا يحدث لحظة الموت
* على بوابة الموت .
* بين عالمين .
* الجسد وغفلة الإنسان في حياته .
* الموت نهاية اختبار الحياة .
* الموت هل هو خروج النفس أو خروج الروح .
* هل هناك ألم عند الموت .
* بين النوم والموت .
* أحلام النائم في البرزخ وأحلام الميت المحتضر .
* تذوق الموت .
* حوار الملائكة مع الميت .
ماذا يحدث لحظة الموت ؟
على فراش الموت
على بوابة الموت :
الذين اقتربوا من بوابة الموت ثم لم يدخلوها في ذلك الوقت وعاشوا بعدها اجمعوا في رواياتهم على وصف متشابه ، كل منهم كان على شفا الموت ودخل في إغمائه ولأن أجله لم يأتي فقد تم إنقاذه قبيل لحظة الصفر ، قبيل أن يدخل بوابة الموت الغامضة .. في رواياتهم عن تلك التجربة الهائلة كان أحدهم يحث بنفسه يرتفع رويداً تاركاً جسده المسجى على السرير وحوله الناس ، وهو يتعجب مما يراه ، وبعضهم يصف مبهوراً ذلك العالم الذي أقترب منه المليء بالألوان والتموجات التي يستطيع وصفها وكان سعيداً بما يراه وتحولت سعادته إلى حزن حين عاد يتقمص جسده ، وعاد للحياة العادية .
وبالطبع فإن أولئك الذين دخلوا بالفعل بوابة الموت لم تأتهم الفرصة ليتحدثوا عنها ، ولو تحدثوا لرووا حديثهم مع ملائكة الموت . فالقرآن الكريم فصل ذلك الحوار الذي لابد أن يجرى بين المحتضر على فراش الموت وبين رسل الله من ملائكة الموت هذا بينما الناس حول فراش المحتضر لا يرون شيئاً ولا يسمعون شيئاً في هذه اللحظة يكون الإنسان أسيراً بين الملائكة ، وحول أهله وأحباؤه لا يستطيعون شيئاً .
ملائكة الموت أقرب من الميت من أهله المحيطين به ، في حقيقة الأمر هم يحيطون بجسد الميت الذي بدأت النفس _ أو الكائن الحقيقي الذي يمثل الإنسان _ تنخلع منه كما يترك أحدنا معطفه البالي .
أهل البيت لا يزالون في العالم المادي يرون فقط الجسد المادي المسجى أمامهم على فراش الموت ، أما نفس الميت فهى وقد قطعت علا”> ” فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39)” الحافة 38 : 39
لا ترى الملائكة التي تكتب على الإنسان أعماله ، وهما ملكان عن اليمين والشمال :
يوم القيامة يتحول الملكان إلى سائق وشهيد يمسكان بتلابيب كل إنسان صحباه في حياته الدنيا .. كان لا يراهما لانهما من مستوى اهتزازي يخالف العالم المادي .. ولكن في يوم القيامة يتخلص من ذلك الجسد المادي وذلك العالم المادي ويستطيع وقتها أن يرى الملائكة وأن ينظر إلى هذين الملكين وهما يصطحبانه إلى مصيره الموعود:
الجسد هو الغطاء الذي يسيطر على الإنسان فينسيه الهدف من حياته ، يظل غطاء الجسد الكثيف جاثماً على الإنسان يلهيه بالغرائز والشهوات والطموحات حتى يستيقظ فجأة على جرس الموت ، وإذ بالجسد الذي صلى في محرابه طيلة حياته قد تحول إلى منزل خرب، وأنه قد آن له أن يستقبل عالماً جديداً نسى أن يعد له العدة ، يعرف الإنسان فجأة أنه كان في حياته في اختبار وأنه نسى الاختبار وفشل فيه وخسر كل شيء .. هذه مشاعر الأغلبية من البشر لحظة الموت .
وفى بداية النهضة العلمية أعتقد بعضهم بعدم وجود ما يخرج عن نطاق الحس والمشاهدة ، وكان ذلك نتيجة طبيعية للتمرد على الكنيسة وعوالم الميتافيزيقا أو السمعيات التي توجد في كل الأديان ، من أحاديث عن الجن والملائكة ، والغيبيات وحين تقدم العلم لم يستطع إنكار وجود الظواهر غير المادية .. بل استطاع توظيفها واستخدامها مثل الكهرباء والمغناطيسية ثم القوة الذرية فيما بعد .. وكانت نظرية النسبية أكبر تتويج يربط بين عالم المادة وعالم الطاقة وأثمر عالم الذرة وتطبيقاتها الهائلة .
وأصبح من السهل إقناع العقل البشرى بأن العالم غير المرئي أكثر قوة من العالم المادي ، فذلك ما يستطيع التحقق منه حين يلمس سلكاً مكهرباً ، أو حين يتذكر كيف تأتى الموجات اللاسلكية والكهرومغناطيسية عبر آلاف الأميال لتلتقطها الأجهزة في غرف محكمة الغلق ، أو حين يعرف أن الثقب الأسود في الفضاء أكبر قوة من النجم قبل أن يتفتت ويتحول إلى ثقب هائل القوة ، وبالمشاهدة العادية يعرف الإنسان أن مروحة الطائرة إذا أشتد دورانها أصبح من العسير رؤيتها ، وبالتالي فإن نظرية الاهتزاز التي أشرت إليها يمكن قبولها عقلياً .
وكلها معطيات كفيلة بأن تجعل الإنسان في عصر العلم يثوب من غفلته ويؤمن بأنه محاط بكائنات علوية تحصى عليه أنفاسه وتحتفظ بتقارير عن كل أفعاله ، وأن حديث القرآن عن مستقبل الإنسان وما سيحدث له في الموت وفى البرزخ وفى يوم الدين ، من المقولات التي يؤيدها العلم الحديث الذي يقترب أكثر من الإيمان كلما تعمق في البحث في عظمة الخالق جل وعلا ، ذلك ما ينبغي أن يكون .
ولكن ما هو كائن فعلاً أن الإنسان يظل أسير جسده أو غطائه المادي الذي يحجب عنه الحقيقة إلى أن يستيقظ لحظة الموت ، والله تعالى لا يقبل توبة اثنين أولهما ذلك المؤمن الذي أدمن المعصية ونسى التوبة وظل كذلك إلى أن أدركه الموت فصرخ أمام الملائكة يطلب العفو دون جدوى ، وثانيهما الكافر الذي أشرك بالله ما لم ينزل به سلطاناً وظل على كفره ، حتى الموت . يقول تعالى :
يبدأ الإنسان طفلاً بريئاً على الفطرة يطرح أسئلة غاية في الأهمية عن الله والحياة والكون ، ثم لا يلبث أن ينمو جسده ويصرخ طالباً إشباع غرائزه فينسى الإنسان التساؤلات الهامة عن الهدف من وجوده في هذه الحياة ويظل خادماً لجسده ساعياً في إرضاء غرائزه ، وتصيبه أمراض أو تقع له حوادث تكون مؤشراً له كي يفيق من غفلته ، وقد يفيق في أثناء الأزمة والمرض ولكن بعودة جسمه إلى العافية يعود إلى غفلته .
وعند لحظة الموت يوفى الإنسان أعماله حيث يقفل كتاب أعماله وتتحدد درجته إما مسلم ناجح أو خاسر ، وليس هناك وسطية . وفى هذه اللحظة لا يستطيع الإنسان أن يزيد في أعماله الحسنة ولا تجدي توبته عن أعماله السيئة . ومن هنا يكون الإنسان أحد شخصين أولهما :
إما مؤمن صحيح الإيمان عمل الصالحات وخاف مقام ربه فأكثر من التوبة فاستحق عند الموت أن يكون من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، الذين يصفهم القرآن بأنهم كانوا مؤمنين متقين لذا يستحقون أن تأتيهم الملائكة تبشرهم لحظة الموت – وهى لحظة تقع على مفترق الطريق بين الدنيا والآخرة .. وفى ذلك يقول تعالى :
فأولياء الله في القرآن ليسوا طائفة خاصة وإنما هي صفات من الإيمان والتقوى مطروحة أمام البشر جميعاً ليتخلقوا بها ، فإذا انتهت حياتهم بالإيمان والتقوى جاءتهم الملائكة عند الموت تبشرهم وتهدئ من مخاوفهم من تلك اللحظة الهائلة وذلك الموقف الرهيب :
وثانيهما: أن يكون شخصاً غافلاً ، غفل عن تصحيح عقيدته وسلوكه ، وانهمك في غرائزه ودنياه . فيكتشف بعد فوات الأوان أنه أصبح من أولياء الشيطان ، وسنعرض لحوارهم مع الملائكة فيما بعد .
والمهم أن القرآن يجعل من لحظة الموت تحديداً لنهاية اختبار الحياة سواء نجح الإنسان في ذلك الاختبار أو فشل فيه .. يقول تعالى : عن الخاسرين في هذا الاختبار :
فالمؤمنون إذا ارتدوا وماتوا على الكفر فقد أضاعوا أعمالهم الصالحة واستحقوا الخلود في النار . والآيات كلها تؤكد على كلمة ” ماتوا وهم كفار ” وفى المقابل يوصى القرآن المؤمنين بأن يظلوا على إسلامهم حتى الموت :
الشائع في اعتقاد الناس أن الإنسان يتكون من روح وجسد ، وأن الروح هى ما يخرج من الإنسان عند الموت . وذلك خطأ شائع ، فالإنسان يتكون من نفس وجسد والنفس هى ما يخرج من الإنسان عند الموت .
والقرآن يتحدث عن النفس في كل ما يخص الإنسان من بدايته إلى نهايته ، ففي بداية الخلق :
والياء في ” روحي ” تفيد الملكية فالروح أو جبريل ملك لله والله يتحدث عن جبريل باعتبار أنه روحه أي عبده المملوك له وحين شاء الله أن يخلق عيسى بدون أب أرسل جبريل يحمل لمريم الأمر ” كن ” أو النفخة الإلهية : “ًفَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا” مريم 17 : 19
وعن تلك المشابهة بين عيسى وآدم يقول تعالى : “إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ”
آل عمران 59
ولأن عيسى يتميز عن باقي البشر بتلك الخصوصية فقد أكتسب أيضاً لقب الروح والكلمة يقول تعالى : “إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ” النساء 191
والوظيفة الثانية للروح أو جبريل هي النزول بالوحي على الأنبياء يقول تعالى : “يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ” النحل 2
ولذلك أكتسب القرآن لقب الروح نظراً لصلته بجبريل روح الله ، يقول تعالى عن القرآن : “وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا” الشورى 52
وإذاً لا شأن للروح بتلك النفس التي في داخلنا .. فالأصح أن نقول خرجت نفسه لا أن تقول ” طلعت روحه “
هل هناك ألم عند الموت ؟
وتأتى معظم مخاوفنا من الموت من تخيل ما يحدث خلاله من تألم المتوفى ، ويزداد رعبنا حين يكون الموت قتلاً أو إعداماً . والعادة أننا نركز في مشاعرنا على ما نراه مرتسماً على وجه الميت أو ما يحدث لجسده في الموت أو القتل . وبوجه عام فإن للجسد البشرى حدوداً في تحمل الألم وحدوداً في تذوق اللذة ، وإذا تعود على اللذات فقد الإحساس بها ثم عجز عن الاستمرار فيها ، وإذا وصل إحساسه بالألم إلى فوق المدى المحدد له دخل في إغماء لا يحس معه بذلك الألم الذي يتخطى طاقة احتماله .
وعند دخول بوابة الموت تكون النفس قد بدأت في قطع العلاقات مع ذلك الجسد الذي لم يعد صالحاً لبقائها فيه إما لأن المرض افترسه والألم المتكرر أنهكه بحيث لم يعد صالحاً للاستمرار ، وإما لأن حادثاً مفاجئاً أفقده القدرة على الاستمرار في وظائفه الحيوية .. وبتحول النفس عن ذلك الجسد يفقد الجسد الإحساس بما يجرى حوله أو بما يجرى فيه .. لأن الإحساس مرتبط بحياة النفس وهى الآن على وشك الرحيل إلى عالمها الأصلي عالم البرزخ الذي أتت منه والذي تعودت أن تستريح كل ليلة بالعودة إليه حين يتعب الجسد وينام ، ثم هي ستعود إلى ذلك البرزخ نهائياً لتستقر فيه إلى يوم البعث .
لم يعد إحساس المتوفى لحظة الموت مرتبطاً بالجسد الذي تعطلت أجهزته ، وإنما أصبح إحساس المحتضر مرتبطاً بنفسه التي تدخل تجربة جديدة هي قطع صلاتها نهائيا بذلك الجسد ، فهو أقرب إلى تجربة الحلم المزعج أو الحلم المفرح الذي يحس به النائم لأن أوجه الشبه كثيرة بين النوم والموت .
بين النوم والموت :
في تجربة علمية فريدة 1988 أثبتت جامعة كاليفورنيا أن الإنسان يموت كل 90 ثانية أثناء نومه ولقد سبق القرآن إلى تقرير الصلة بين الموت والنوم وبين برزخ النائم وبين برزخ الميت . فالقرآن يعتبر النوم موتاً متقطعاً في قوله تعالى : ” اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” الزمر 42
وتخيل أن هناك شخصين ينامان معاً على وسادة واحدة ، وقد توفى الله نفسيهما أمسك بالأولى نهائياً لأن صاحبها مات ، أما النفس الأخرى فقد أرسلها إلى صاحبها في الصباح وأستيقظ .. ومن المعروف علمياً أن عين النائم تدور في مقلتها في أثناء النوم ، وذلك نفس ما يحدث عند لحظة الموت يقول تعالى : ” تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ” الأحزاب 19
والفارق بسيط بين النائم وبين المغمى عليه ويقول تعالى يصف ملمحاً من ملامح الموت ” يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ” محمد 20
إذاً فالنوم إغماء للجسد ودخول للنفس في عالم البرزخ كالنوم تماماً ..
ويقول تعالى عن الموت أيضاً : “وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ” ق 19
إذاً للموت سكرة يكون فيها المحتضر مشغولاً عن جسده والمحيطين به والعالم المادي كله بالعالم الآخر الذي دخل فيه بنفسه . ومن الثابت علمياً أن الإنسان في نومه العميق يفقد الإحساس بمن حوله ولا يسمع شيئاً ،وتزول هذه الحالة تدريجياً وتعود تدريجياً ، وليل النائم دورات متلاحقة من النوم العميق ” الموت ” والنوم الخفيف . وفى قصة أهل الكهف أتى القرآن ببعض الحقائق العلمية عن النوم ، منها ضرورة أن يتقلب النائم في فراشه ذات اليمين وذات الشمال ليحمى جسده من البثور و الدمامل جراء النوم الطويل على موضع واحد من الجسد .. فقال عن كيفية نوم أهل الكهف : ” وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ” الكهف 18
وهذا هو الفارق بين النوم والموت الحقيقي . ولقد كان أولئك في نوم حقيقي فقدوا فيه الإحساس بما حولهم يقول تعالى : ” فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ” الكهف 11 : 12
والميت بالطبع لا يسمع ، والقرآن يصف المشرك الذي لا يستجيب للحق بأنه أصم ميت:
فهذه صلة أخرى بين الموت والنوم ، إذا يفقد الإنسان فيه حاسة السمع والإحساس بما حوله .
ليس هناك ألم جسدي في لحظة الموت ، تماماً كما يحدث في النوم أو الإغماء أو السكرة ، ومن المتعارف عليه أن المريض الذي يعانى من ألم شديد أو يدخل في عملية جراحية لابد أن يخدر أي يدخل في إغماء أو سكرة ليفقد الإحساس بالألم الجسدي . لا داعي على الإطلاق للمبالغة في وصف سكرة الموت وما فيها من آلام ، إنها مجرد نوم عميق يتم فيه قطع الصلة نهائياً بين النفس والجسد .. وكما يكون النوم راحة للجسد المتعب المنهك كذلك يكون الموت راحة للجسد المريض الذي فقد قدرته على الألم والاستمرار في الحياة .
حين يستيقظ الإنسان من نومه في الصباح تكون ملامح وجهه أقرب للميت ، وحتى يعود الوجه إلى نضارته وحيويته لابد من أن يغسل بالماء الذي هو سر الحياة .
وإذا كنا نموت كل ليلة ثم نبعث كل صباح ، فلا داعي للخوف من الموت النهائي .
أحلام النائم في البرزخ وأحلام الميت المحتضر :
أن تكون نفسك سجينة في الجسد معناه أن تكون تحت سيطرة الزمن . الزمن هو البعد الرابع الذي يكمل الأضلاع الثلاثة لأي جرم مادي . والنفس عالم أثيري إذا تركت الجسد في حالة النوم تحررت من ربقة الزمن أيضاً حيث لا زمن في عالم الأثير أو البرزخ . هناك لا فرق بين الماضي والمضارع والمستقبل . وبينما يكون هناك زمن ماضي أو مستقبل أمام الإنسان بجسده المادي فإن النفس إذا دخلت عالم البرزخ ربما شهدت حدثاً يستغرق سنوات في عالم المادة بينما تشهده النفس في برزخها ساعة النوم أو في أول ثانية . وربما تشهد النفس في برزخها حدثاً سيقع في المستقبل وهو في عالم البرزخ مجرد حدث بلا زمن ، وهنا تأتى الأحلام عادة بأشياء تحدث في المستقبل .. وبسبب اختلاف العالم الأرضي عن عالم البرزخ ، وبسبب التشويش الآتي من اللاشعور وعادة النسيان فإن الأحلام عادة ما تأتى بصورة رمزية ، وأكثرها بالطبع مجرد أضغاث أحلام ، وأقلها ما يكون رمزاً لأشياء تحدث في المستقبل فعلاً .
والقرآن الكريم الذي ما فرط في شيء أتى بالحقائق الثابتة عن الأحلام والمنامات من خلال قصة يوسف ومنها أن بعض الأحلام تشي بالمستقبل وتخبر عنه ولكن لا يلزم أن يكون صاحب المنام من الصالحين كما يعتقد بعضهم ، إذ أن يوسف رأى مناماً وهو طفل وقد تحقق بالفعل فيما بعد ، ويوسف هو من نعرف صلاحاً وتقوى ولكن رأى الرؤية الصادقة أيضاً أناس مشركون مثل صاحبي يوسف في السجن وقد كان يدعوهما للإيمان بالله وحده قبيل أن يؤول لهما الرؤية التي تحققت بالفعل لكل منهما . والملك الذي لم يكن مؤمناً رأى . رؤياه عن المجاعة وحدثت بالفعل وتحسب لها الملك وعين يوسف أميناً على خزائن مصر .
ويلاحظ أن تلك الرؤى جاءت في صورة رمزية ، فمثلاً يوسف رأى أحد عشر كوكباً والشمس والقمر يسجدون له وكان تحقيقها أن إخوة يوسف ووالديه سجدوا له حين جاء الجميع إلى مصر . يوسف 6 ، 100
وصاحبا يوسف في السجن أحدهما رأى أنه يعصر خمراً وكان التأويل أنه سيكون ساقياً للملك وسينجو من السجن ورأى الآخر أنه يحمل فوق رأسه خبزاً تأكل الطير منه وكان التأويل أنه سيموت مصلوباً ” يوسف 36 ، 41 ” والملك رأى سبع بقرات نحيفات يأكلن سبع بقرات سمينات ورأى سبع سنابل يابسات وسبع سنابل خضراً وكان التأويل والذي حدث فعلاً هو مجيء سبع سنين من الرخاء ثم مجيء سبع سنين من المجاعة
يوسف 43 : 47 : 94
تذوق الموت
بعض الناس يرى كابوساً من الأحلام المزعجة يتمنى الخلاص منه باليقظة ، وربما يكون جسده في راحة بالنوم ولكن نفسه تتمزق بذلك الحلم المزعج ، وربما تظل ذكرى ذلك الحلم عالقة بالذاكرة الحية مؤثرة على مزاج صاحبها لعدة أيام ، وربما تجد طريقها إلى قاع اللاشعور وتسبب آلاما نفسية يحتار فيها الطب النفسي في هذه الحالة نقول أن النفس ” ذاقت ” الألم . لا الجسد ..
وبعضنا يرى حلماً وردياً تظل آثاره المبهجة تسرى في كيانه ، وتطفو إلى سطح الذاكرة بين حين وآخر .. وفى هذه الحالة أيضاً نقول أن النفس ذاقت السعادة . وليس الجسد ..
وعلى نفس النسق فالنفس هي التي ” تذوق ” الموت بالضبط كما تذوق الوفاة عند النوم ، في ثلاث آيات من القرآن الكريم فيقول تعالى :
إذاً تذوق الموت يمكن أن يتضاعف سواء كان ألماً أو كان سروراً حسب الظروف .
حوار الملائكة مع الميت
عندما يدخل الميت بوابة الموت فعلاً يتحرر من سيطرة الزمن والعالم المادي ويدخل عالم البرزخ وهو في كامل إدراكه وقواه العقلية – وليس في حالة نوم أو موت جزئي – وساعتها يكون الفزع قد بلغ عنده مداه خصوصاً وهو يدرك الآن أنه لم يكن مستعداً لدخول ذلك العالم بما ينبغي الاستعداد له ،ومهما بلغت درجة تقواه في الدنيا فإن فزعه من شريط حياته الذي يراه يمر أمامه في لحظة تعدل الحياة كلها – يجعله في حالة خوف وحزن . وبالطبع فإن العاصي والمشرك يكون حاله أسوأ ويكون موقف الملائكة ـ ملائكة الاحتضارـ معه أشد . وحتى لا نرثى لحالهم مقدماً علينا أن نتذكر أن بعضهم يسخر من الحديث عن الملائكة بل والقصة بأكملها لديه مجرد أساطير . ويظل سائراً في شهواته واستهزائه إلى أن يأتيه الموت فيكون شعوره بالندم وهو أسير الموت أفظع من تبكيت الملائكة له . وفى النهاية فالموت هو ” اليقين في تعبير القرآن ” ” وأعبد ربك حتى يأتيك اليقين ” وعند الموت يتيقن الإنسان من كل شيء حق ..
والبشر على فراش الموت يكونون على ثلاثة أقسام ، قسمان في الجنة وقسم في النار وعلى أساس درجة كل منهم تكون نوعية حوار الملائكة معه . ولتقرأ هذه الآيات التي تصف لحظة الاحتضار ” فلولا إذا بلغت الحلقوم ” أي حين تشرف النفس على أن تنفصل عن أغلال الجسد وتنقطع الأواصر بينها وبينه ” وأنتم حينئذ تنظرون ” أي وأنتم تحيطون بفراش الميت وتنظرون له وهو يعالج سكرات الموت ” ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون ” أي أن الله بقدرته وملائكة الموت الذين أرسلهم الله لقبض نفسه تسيطر عليه وعلى نفسه مهما كان قربكم من جسده فأنتم أبعد ما تكونون عن نفسه التي بين قبضة الملائكة ، وأنتم لا تبصرون ذلك في عالمكم المادي ” فلولا أن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين ؟ ” أي فإذا كنتم غير مقهورين وغير موقنين أو مصدقين هل تستطيعون إرجاع النفس إلى الجسد وإنقاذ صاحبها من الموت ؟ والإجابة على السؤال معروفة ، إذ أن أكثر الناس إلحاداً لا يستطيع دفع الموت عن نفسه أو عن أقرب الناس إليه ويكون في هذا الموقف راجياً رحمة ربه حيث لا طب يجدي ولا طبيب . وهنا يتعين على الميت الأسير بين يدي ملائكة الموت أن يعرف مصيره ” فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم ” أي إذا كان من أصحاب الدرجات العليا من الإيمان والتقوى فستكون لحظة الاحتضار عنده راحة وسعادة وتبشير بجنات نعيم ” وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين ” أي إن كان من الناجين من أهل اليمين فالملائكة تلقاه بالتسليم تقول له سلاماً سلاماً ..
” وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم ” أن كان خاسراً كذب بآيات الله وقرآنه وضل في سلوكه وعقيدته فتبشره الملائكة بمستقره في جهنم وتعذيبه في الجحيم . ثم تقول الآية ” إن هذا لهو حق اليقين ” أي هو حق سيأتي الوقت الذي يكون أمام أعيننا يقيناً يتيقن الإنسان منه بنفسه ، وقد حملت الآية كل أساليب التأكيد ليزداد المؤمن إيماناً .
كان أصحاب الجنة في الآية السابقة قسمين ، وأصحاب النار قسماً واحداً ، وجاءت تفصيلات القرآن .
بأنواع شتى من أصحاب النار وكيف كان ندمهم شديداً ، منهم الكفار والعصاة من المسلمين ..
حوار الملائكة مع المتقين عند الاحتضار
الذي قضى حياته مؤمناً متقياً طائعاً تقوم الملائكة بتهوين الموقف عليه فلا يخاف ولا يحزن وتدخل نفسه إلى البرزخ وقد أطمأنت على مستقبلها يوم القيامة ، يقول تعالى :
فأولياء الله هم المتصفون بالإيمان والتقوى بين كل البشر والذين قضوا حياتهم في إيمان حقيقي وخوف من الله وعمل للصالحات وأولئك الذين لا خوف عليهم ولا حزن في لحظة المفترق بين الدنيا والآخرة – في لحظة الاحتضار – تتنزل عليهم الملائكة بالبشرى تهدىء من روعهم في هذه اللحظة العصيبة ” إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ” أي طيلة حياتهم الدنيا ” تتنزل عليهم الملائكة ” أي حين الموت :
قد يكون أحدهم مسلماً بالعنوان فقط ولكنه أدمن المعصية ولم يعرف طريق التوبة وظل كذلك إلى أن جاءه الموت فصرخ حينئذ- حيث لا يسمعه أحد – إني تبت الآن ، وبالطبع فقد فات أوان التوبة :
قد يكون أحدهم ظالماً لربه ولنفسه وللآخرين فيحاول عند الموت أن يتنصل من ذنوبه حين يرى شريط حياته يمر أمامه ، ولكن ذلك الإنكار والخضوع الوقتي لا يجدي شيئاً :
وقد يكون أحدهم قد استغرقه جمع المال ونسى أن يعطى حق الله فيه فبخل واستغنى ، وهذا يتمنى عند الاحتضار أن يعطى فرصة دقائق معدودة لينفق أمواله في سبيل الله ولكن لا تأجيل ولا تأخير لموعد الموت ولذلك يحذرنا ربنا من ذلك المصير :
وقد يكون أحدهم مسلماً ولكن تكاسل عن واجب الهجرة في سبيل الله نجاة بدنية حين تكون الهجرة واجبة وأولئك يعتذرون لملائكة الموت بأنهم كانوا مستضعفين في الأرض
والمشرك دائماً يكذب بآيات الله إيماناً منه بمعتقدات وأقاويل كاذبة ينسبها لله زوراً ، وحين الموت تسأله الملائكة عن أوليائه الذين أنفق عمره في الدفاع عنهم هل يغنون عنه من الله شيئاً
إذن كنا موتى قبل أن نولد ثم دخلت النفس في الجنين وبدأنا الحياة الدنيا أو الحياة الأولى ، وبعدها خرجت النفس من الجسد فعدنا إلى الموت أو الموتة الثانية فبعدها كان البعث في دخول النفس ثانية إلى الجسد لنحيا الحياة الثانية وفيها يكون الحساب أو الجنة أو النار .
وفى الجنة والنار . لا موت .. وذلك مفهوم في حالة الجنة ، وفى حلة النار فالعذاب أبدي لكن أصحاب النار تنبت جلودهم كلما نضجت ليذوقوا العذاب إلى مالا نهاية . والموت لن يرحمهم من ذاك العذاب الأبدي . يقول تعالى :
ومن خلال إشارات القرآن يمكن أن نقترب من فهم ماهية النفس في البرزخ قبل إن نولد في هذه لدنيا. في عالم البرزخ وحيث لا زمن خلق الله البشر جميعاً من نفس واحدة كلية ثم انشقت منها أنفس البشر وكانت البداية نفس آدم ومنها جاءت نفس حواء ثم يتم نفث كل نفس في الجنين الخاص بها في الوقت المحدد لها سلفاً .
أقرأ عن خلق النفس الأولى آدم وتسلسل الأنفس البشرية منها :” يا أيها الناس أتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً ” النساء 1
في عالم البرزخ حيث لا زمن كان العهد على كل الأنفس – ثم تدخل كل نفس في جنينها وتدخل تجربة الحياة الأولى في هذه الدنيا وتظل تحت سيطرة الزمن طيلة العمر المقرر لها ثم تفارق الجسد وتموت للمرة الثانية حيث ترجع للبرزخ الذي أتت منه – ويأتي يوم القيامة ويكون البعث ، أي تعود الأنفس لترتدي أجساداً جديدة لا تبلى ولا تموت تتحمل اللذة في الجنة أو العذاب في النار ولا يكون هناك موت . بل خلود أبدى .
الموت بالنسبة للنفس أن تكون بلا جسد كما في البرزخ الأول أو أن تفارق الجسد الذي كان لها كما يحدث لنا في العالم . وفى الحالين تعود النفس لعالم البرزخ الغامض .
إذن هناك موتتان الأولى قبل أن نولد والثانية بعد أن نموت في هذه الدنيا وفى الموتتين نكون في البرزخ أو نعود إليه ، ولنا حياتان الأولى في هذا العالم والأخرى في العالم الآخر في يوم الدين وما يتلوه من جنة أو نار .
البرزخ
بالنسبة لعالمنا الأرضي الذي يدور في إطار الزمن نقول برزخ أول وبرخ ثان .
ونضرب مثلاً لتقريب معنى البرزخ الأول والثاني . أو الموتة الأولى والموتة الثانية :- والدي المتوفى هو الآن في البرزخ الثاني في موتته الثانية لأنه سبق له أن عاش على هذه الأرض، وقبل أن يكون على الأرض كانت نفسه ميتة في البرزخ ، ثم بعد أن قضى عمره في الأرض مات الموتة الثانية وعاد للبرزخ ثانية .
أما ابني الذي لم أرزق به بعد أو حفيدي الذي لم أره بعد فلا يزال نفساً ميتة في البرزخ الأول .. لم يولد بعد . ولأن البرزخ عالم من الموت والموتى فيستحيل أن يتعرف والدي في البرزخ على ابني أو حفيدي الذي لم يأت الدنيا بعد ، وإذا أمكنك أن تحادث حفيدي الذي لم يولد بعد في البرزخ الأول أذن يمكنك أن تحادث الموتى في قبورهم أو في البرزخ الثاني ، في واقع الأمر إن الموتى لا يسمعون في أي حال
” وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمعٍ من في القبور (22) )) فاطر 22
وهذا غير الشهادة التي اثبتها الله تعالى لوحدانيته في عالم البرزخ وهى لأنه يسمع من يشاء ويسمع من في القبور .
هل هناك إحساس في البرزخ
من الخرافات الدينية أن بعض الأموات في البرزخ يتميز بخاصية غريبة وهى قدرته على التخاطب مع البشر وتلبية مطالبهم ، لذا يحج الناس إلى قبورهم متوسلين ويلقون إليهم بالشكاوى والمشاكل يطلبون منهم الحل .. ويقول القرآن في ذلك :
وعلى أية حال فهى مفارقة مضحكة ، كيف يكون ميتاً ويكون سميعاً في نفس الوقت ؟ والموت يعنى أنه لا سمع ولا شيء هناك : {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ }النمل80
” إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين (194) ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم ءاذان يسمعون بها”
الأعراف 194 ، 195
(( والذين تدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون (20) أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون ))
النحل 20 : 21
لقد تحول جسد الميت إلى تراب وذلك حكم إلهي تصير أعضاء الميت جزءاً من التربة سواء تحللت أو بقيت بعض أجزائها :
” منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى “
طه 55
لقد انتقل الكائن الحقيقي داخل الجسد – وهو النفس – إلى عالم البرزخ ، ودخل فترة كمون أو موت حيث لا يحس بأحد ولا يحس به أحد ، إن آخر لحظة إحساس للميت تكون ساعة الاحتضار في حواره مع ملائكة الموت ، وحين البعث في العالم الآخر يستعيد الإنسان ذكرياته سريعاً ويكون أول ما يتذكر هو لحظة موته ويتخيل أنها كانت بالأمس القريب ، يظن أنه مر عليه يوم أو بعض يوم .. وينسى أنه مكث في البرزخ آلاف السنيين، ولكن فترة البرزخ لازمن فيها ، يستوى الزمن من ملايين السنين إلى يوم واحد فقط .. إن آدم أبا البشر وآخر إنسان من أولاد آدم سيحسان نفس الشعور حين البعث .. أنهما قضيا يوماً أو بعض اليوم من موعد الموت إلى موعد البعث.
حين استيقظ أو بعثه الله بعد مائة عام ظن أنه لبث يوماً أو بعض يوم فقط ، أي فقد الإحساس بما حوله لمدة مائة عام . وأصبحت المائة عام مجرد نوم استمر يوماً أو بعض اليوم .
ويقول تعالى عن أهل الكهف حين استيقظوا بعد ثلثمائة سنين و تسع سنوات :
أصبح البرزخ في منامه مجرد يوم أو بعض يوم وهو في الزمن الأرضي 309 سنوات كاملة . وخلالها لم يحس أهل الكهف بما جرى لمدينتهم من تقلب الأيام وموت أجيال وحياة أجيال وانقراض حكام وقيام حكام حين استيقظوا كانوا يخافون من نفس المدينة التي تركوها بالأمس فقط في اعتقادهم ، فقالوا لمن أرسلوه ليشترى لهم الطعام :
فالذي يقال عند الموت لهم ينتهي بقوله ” وكنتم عن آياته تستكبرون ” والذي سيقال لهم يوم القيامة ” ولقد جئتمونا فرادى .” وما بينهما برزخ لا حوار ولا شعور فيه . أي أن الموت والبعث هما نقطة واحدة ويقول تعالى : وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ{19} وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ{20} ق 19 : 20
فمن الإحساس بسكرة الموت لا يأتي الإحساس بعدها إلا في بالنفخ في الصور. وفيما بينهما برزخ لا إحساس ولا شعور فيه .
وما سبق من أدلة تدحض ما قيل من أن الميت في قبره يستيقظ ويأتي له ملكان منكر ونكير فيحاسبانه ويستجوبانه ، وكل ما نعرفه أن الحساب يكون أمام الله يوم الحساب ، وأن قصة حساب القبر مستوحاة من التراث الفرعوني حيث يمثل الميت أمام أوزوريس الذي يسأله عن أعماله .. ثم وهذا هو الأهم أن البرزخ فترة موت أو كمون لا إحساس فيها يظل فيها الميت إلى يوم البعث .
إذن من البداية ينهانا الله تعالى أن نعتبر المقتول في سبيل الله ميتاً أو أن نقول عنه أنه مات . بل هو حي ولكن كيف ؟ لا نشعر .. لأنه حي في عالم أثيري لا يمكن أن نراه أو نحس به ويعطى القرآن . إشارات على قدر ما تسمح به أفهامنا عن نوعية هذه الحياة التي لا يمكن أن نشعر بها
ففي الآيات تكرار للنهى عن أن نحسبهم موتى .. بل هم أحياء في عالم آخر ” عند الله ” ويتمتعون بالرزق من الله ، ثم هم سعداء فرحون بنعيم الله وفضله وينتظرون مجيء ضيوف آخرين من الذين يهبون حياتهم في سبيل الله ليكافئهم الله بالحياة الأكرم عنده ، وهناك لا خوف ولا حزن ولكن استبشار وحمد لله الذي لا يضيع أجر المؤمنين ..
إذن نحن أمام نوعية فريدة من الحياة في مكان لا نعرف عنه شيء ، حيث يحس أولئك بالآخرين ممن لا يزالون في العالم الأرضي ويتمنون لهم أن يلحقوا بهم في ذلك النعيم الإلهي .
وفى القصص القرآني حكاية ذلك الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى ليؤيد الرسل الثلاثة الذين أرسلهم الله إلى القرية فكذبوهم وهددوهم بالرجم ، ودفع الرجل حياته ثمناً لكلمة الحق التي تطوع بقولها ، وحين قتله قومه جاء تبشيره بالجنة :
فذلك الرجل المقتول في سبيل الله أحس بقومه وتمنى أن يكون منهم من يلحق به في دار النعيم عند الله .
هذا بينما تظل الحقيقة القرآنية ماثلة أمامنا . إننا لا نشعر بهم وإن كانوا يشعرون بنا .
أولئك أناس دفعوا حياتهم ثمناً لرضا الله وفى سبيله فاستحقوا أن يكتب الله لهم الحياة حيث يتوقع الآخرون لهم الموت ، وحيث أراد أعداء الله لهم الموت .
وهناك من البشر من تطرف في الكفر إلى درجة أدعاء الربوبية الكبرى وإنكار وجود الله والتساؤل بسخرية عنه تعالى ، وإلى درجة قتل وصلب المؤمنين ، ثم بذل حياته وهو يطارد نبي الله موسى لا لشيء إلا لكي يجعل قومه تحت سيطرته وعذابه الدائم .. إنه فرعون الذي جعله الله إماماً لكل المشركين إلى يوم القيامة ” القصص 4 : 38 : 42 ” ، ” غافر 36 : 37 ” ” النازعات 21 : 25 “
وكوفىء فرعون على تطرفه في الكفر بخصائص منها أنه يظل في عذاب بعد غرقه في سبيل الشيطان إلى أن تقوم الساعة :
فطالما هناك دنيا وليل ونهار وغدو وعشي يعرض فرعون وآله على النار وذلك هو سوء العذاب ، ثم يوم القيامة له نوع آخر يتميز به وهو أشد العذاب، ويكون فيه ” زعيماً” لقومه في دخول النار يقدم قومه يوم القيامة
“ولقد كرمنا بنى آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً ” الإسراء 70
ومن تكريم الإنسان دفن جثته بعد الموت وذلك ما علمه الله لابن آدم حين قتل آخاه ” المائدة 31 ” ثم توالت شعائر الإنسان لتكريم الميت ومنها غسله وتكفينه وتحنيطه أحياناً حتى لا تبلى الجثة . وأهم ما في شعائر الموت هي الصلاة على الميت أو الدعاء له على قبره ، وقد نهى الله النبي عن الصلاة على قبور المنافقين الذين تقاعسوا عن الجهاد في غزوة ذات العسرة فقال : وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ{84} التوبة 84
وقد عرف المصريين القدامى المبالغة في تكريم الميت من ملء قبره بالأطعمة وتلاوة الأعاويذ المقدسة على قبره حتى ينعم بالسعادة .. ولا نزال حتى الآن نخرج للمدافن بالأطعمة ونستأجر المقرئين على القبر .
وأخيراً نقول إن من ابتعد عن القرآن فقد وقع في المتاهة.