كتابات الأستاذ الكتور إبراهيم عبده (1913- 1986
يمثل الدكتور إبراهيم عبده ظاهرة فريدة فى تاريخ الإعلام المصرى، فهو قد عمل أكاديميا فى هذا المجال متخصصاً فى تاريخ الصحافة منذ أن تخرج فى كلية الآداب فى منتصف الثلاثينات من القرن العشرين، ويغريه أساتذته منهم الدكتور طه حسين والأستاذ محمد شفيق غربال بالتخصص فى الصحافة، ويعد رسالته للماجستير حول “تاريخ الوقائع المصرية 1828- 1942″، ويذهب فى بعثة إلى الولايات للوقوف على الجديد فى هذا المجال، ثم يعود إلى مصر بعد ثورة يوليو 1952 الذى تحمس لها فى البداية وهو فى امريكا، ثم يخيب ظنه فيها لأنها لم تلتزم بأهدافها الستة التى أعلنتها، ثم يذهب إلى السعودية والكويت لتدريس الصحافة ثم يعود فينشىء مؤسسة “سجل العرب” التى تخصصت فى نشر الأعمال الضخمة كما نشرت أعماله بعد ذلك، وعرف عنه الكتابة اللاذعة الناقدة للحكام الذين توالوا على حكم مصر حتى رحيله سنة 1986، وقد شحت الكتابة عن الدكتور إبراهيم عبده بل انعدمت تماما، وقد أردنا فى السطور التالية أن نرد بعض الجميل له لأنه الرائد فى مجال تاريخ الصحافة العربية وتعداه إلى العالمية فى مصنفات رائعة بديعة حوت المعلومات الدقيقة التى ظل ينقح فيها طبعات حتى رحيله.
ولد الدكتور إبراهيم عبده فى القاهرة عام 1913 وتعلم فى مدارسها الابتدائية والثانوية، ثم التحق بكلية الآداب فى جامعة فؤاد الأول (القاهرة) ليتخصص فى الصحافة ويتخرج على يديه كل أعلام الصحافة فى مصر والوطن العربى، ثم يسافر إلى أمريكا وقامت ثورة يوليو 1952وهو هناك فيعقد مؤتمراً صحفياً أعلن تأييده للثورة ونصب نفسه متحدثاً باسمها وداعياً لها ثم عاد بعد ذلك إلى مصر يصطدم بالواقع الأليم والشعارات الجوفاء التى لازمت الثورة والتى حولها جمال عبدالناصر إلى انقلاب أثيم بعد ذلك فى مارس 1954، ولم يطق أن يمكث فى هذا الجو الملوث والسجن الكبير الذى عاشه المصريون فى هذا التوقيت وهو الذى تعود العيش فى الجو “الليبرالى” التى عاشته مصر قبل ثورة يوليو … سافر بعد ذلك للعمل فى السعودية ثم فى الكويت ..ثم عاد ليؤسس دار نشر ثقافية إعلامية شاملة أسماها “سجل العرب”، وقد تطورت هذه الدار حتى ضمت نحو 30 أستاذاً جامعياً تخصصوا فى إصدار الكتب والموسوعات ..
يحسب للدكتور عبده أنه أول أستاذ للصحافة فى مصر حيث حصل على العديد من الشهادات العلمية فى هذا المجال من مصر وأمريكا كما درس للفن الصحفى وتاريخ الصحافة فى جامعة القاهرة والعديد من الجامعات العربية والعالمية، وكان أول عميد لمعهد التحرير والترجمة والصحافة منذ إنشائه عام 1939قبل إنشاء كلية الإعلام سنة1974 كما اختارته جامعة القاهرة استاذا متفرغاً فى كلية الإعلام 1982.
حمل على ثورة يوليو 1952حملة عنيفة وكان شاهداً عياناً على أخطاءها وانتكاساتها فأصدر عدة كتب فى هذا المجال كان أولها كتاباته الشهير جداً “رسائل من نفاقستان” الذى طبع طبعات عدة وتحدثت عنه الصحافة العالمية، ثم توالت كتبه لتنتقد أخطاء أربعين عاماً من حكم العسكر فى مصر بعد انقلاب جمال عبدالناصر على ثورة يوليو التى كانت تسير تقريباً سيراً طبيعياً حتى تم إزاحة قائد الثورة اللواء محمد نجيب الذى كان يبغى إقامة نظام ديمقراطى تعددى صحى، وكان يريد من الجيش أن يعود إلى ثكناته ويتفرغ لمهمته الطبيعية فى حماية الحدود والدفاع عن الأمن القومى المصرى إلا أن ضباط يوليو راقت فى أعينهم لعبة السلطة والسياسة واستولوا على مؤسسات الدولة وهيمنوا عليها وجعلوا دور مصر تتقزم أمام عصابة الصهاينة ما كانت أن تنتصر فى مواقع إلا بتخاذل وتخلف النظام السياسى التى انتهجته السلطة العسكرية التى كانت تحكم مصر والتى كانت تتعلل بعلل واهية منها الاستعمار وأعوانه فى الداخل وخونت كل من يعارضها واتهمته بالعمالة والخيانة .
تعرض الدكتور إبراهيم لمضايقات أثناء عمله فى الجامعة مثل غيره الذين تعرضوا لهذا المصير وهم كثر، وفى هذه الشأن تقول تلميذته النجيبة عواطف عبدالجليل: “ولم نسعد طويلاً بأستاذنا الكبير، فقد سادت الجامعة سحابة من الكآبة تدنت فيها الأخلاق الجامعية وتعثرت العدالة السياسية وتحركت الأطماع الانتهازية فحولت الساحة العلمية الأكاديمية إلى غابة شرسة مظلمة وخرج إبراهيم عبده كالأسد الجريح ويعلن رأيه فى صراحة وصدق”.
مؤرخاً للصحافة:
أرخ الدكتور إبراهيم عبده للصحافة المصرية والعربية والعالمية فى كتب عدة اعتمدت على الدقة والوثيقة وحسن استخدامها، وظهر له فى هذا المجال 13 كتاب هم: “تاريخ الطباعة والصحافة خلال الحملة الفرنسية”، و”تاريخ الوقائع المصرية 1928- 1942)، و”تطور الصحافة المصرية وأثرها فى النهضتين الفكرية والاجتماعية”، و”أعلام الصحافة العربية”، و”حول الصحافة فى عصر إسماعيل”، و”جريدة الأهرام تاريخ مصر فى خمس وسبعين عاماً”، و””Etudes Journalistques En Europe و”دراسات فى الصحافة الأوربية تاريخ وفن”، و”أبو نظارة إمام الصحافة الفكاهية المصورة وزعيم المسرح فى مصر”، و”الصحفى الثائر”، و”روز اليوسف سيرة وصحيفة”، و”الصحافة فى الولايات المتحدة نشأتها وتطورها”.
ولنأخذ على سبيل المثال لأول كتبه “تاريخ الطباعة والصحافة فى مصر خلال الحملة الفرنسية”
الذى صدر فى طبعته الأولى سنة 1940، وألفه بتكليف من أستاذ التاريخ محمد شفيق غربال بعد أن رأى تركيز المؤرخين للحملة على الجانب السياسى والعلمى فقط وندرت التأليف حول هذا العصر اللهم إلا من مؤلفات فرنسية وضعت فى القرن 19 وبدايات القرن العشرين وقد شمر الدكتور إبراهيم عبده عن ساعد الجد واستعان بالمصادر والمراجع الأجنبية والعربية وإن كانت الأخيرة لا تشفى الغليل لأنها كانت مصنفات اولية لم تتعمق بعد ..فقرأ مؤلفات ومذكرات علماء الحملة الفرنسية وكتاب “وصف مصر” ..وقدم الدكتور عبده بفصول تمهيدية عن وسائل الاتصال بالجماهير منذ اقدم العصور وحتى الحملة الفرنسية وعدد طرقا منها كما تطرق لتاريخ المطبعة ثم تحدث عن مطابع وصحافة الحملة الفرنسية وأدوات النشر وعمل المطابع كما تحدث عن صحيفة “لو كورييه دى ليجيبت” وجريدة “لا ديكاد اجبسين” وجريدة التنبيه ..
ونقف معه فى كتاب آخر “تطور الصحافة المصرية وأثرها فى النهضتين الفكرية والاجتماعية”
الصادر فى طبعته الأولى 1944، ويتناول تاريخ الصحافة فى مصر منذ نزل بونابرت وادى النيل سنة 1798 إلى تاريخ نشر الكتاب عام 1982، ويتضمن ما أصاب الصحافة المصرية – سواء الرسمية اوالشعبية- فى هذه الفترة الطويلة من تطور فى موضوعها وشكلها، مستندا فى ذلك الى الوثائق الرسمية، كما تناول الكتاب العديد من الشخصيات الخالدة فى تاريخ الصحافة المصرية وما تركوه من آثار لاتزال واضحة فى نهج الصحافة المعاصرة مثل: أديب اسحاق، ورفاعة الطهطاوى، والشيخ محمد عبده ، والنديم، ومصطفى كامل ، ومصطفى وعلى أمين، العقاد، وطه حسين، وحافظ عوض، ومجمد التابعى… وغيرهم ممن أثروا فى تاريخ تطور الصحافةالمصرية .
أما كتابه “تاريخ الوقائع المصرية 1928- 1942”
وأهمية هذا الكتاب ترجع للموضوع الذى تناوله – مع الاعتراف بأهمية كتاباته الأخرى – فهو يتطرق لموضوع من الأهمية بمكان لدى الباحثين فى كل مناحى الحياة فى مصر ابتداء من عهد محمد على وترجع أهمية عمله هذا إلى أن أصله رسالة ماجستير ، مما يعنى أنها دراسة علمية جادة ، وليست موضوعا للمناقشة أو للطرح كما أن الموضوع نفسه تعود أهميته إلى الدور الذى يمكن أن تقوم الوقائع المصرية لمن يريد أن يعرف أو يدرس أحوال الحياة المختلفة فى مصر . كما يروى أدق التفاصيل لمراحل تطور الجريدة والتغيرات التى طرأت على مطبعتها . ولكن الكتاب لم يقسم إلى فصول، إنما تم توزيع الموضوع على نقاط بلغت اثنتى عشرة نقطة بالإضافة إلى خاتمة. وهذه النقاط هى :
مقدمات الطباعة والصحافة فى مصر، جرنال الخديو وديوانه، إنشاء الوقائع المصرية وإدارتها، سياسة محمد على فى توجيه الوقائع، تحرير الوقائع المصرية، تجديد الوقائع وتعديل نظامها، الوقائع المصرية فى عصر الخديو إسماعيل، رسالة الوقائع فى العصر الجديد، الوقائع صحيفة رأى وفكر، تاريخ الوقائع المصرية من سنة 1882 إلى أيامنا المعاصرة، الوقائع المصرية – القسم البرلمانى، الجريدة الرسمية الفرنسية.
وبين الكتاب أن المطبعة التى استخدمت لطباعة الوقائع المصرية ليست هى المطبعة التى أحضرها نابوليون بونابرت مع حملته على مصر، لأن مطبعة الحملة عادت إلى فرنسا فى 1803 . وقد اضطر محمد على بسبب تطور الحياة على مستوى العالم وحاجة مصر الماسة إلى مطبعة، خاصة فى تلك الفترة من تاريخ مصر والتى شهدت معظم وأوج أنشطة ومحاولات محمد على لتغيير وجه مصر، وحروبه المختلفة. فالإدارة تحتاج إلى كتابة الأوامر والتقارير، والجيش يحتاج إلى كتب ودراسات لمتطلبات الحركة التعليمية فى مصر فى تلك الفترة. أنشئت مطبعة بولاق ، أو المطبعة الأميرية وافتتحت فى 1235 هـ / 1819 – 1820 م ، وأنشأ محمد على جريدة الوقائع المصرية فى 15 رجب 1244 هـ – أى بعد تسع سنوات من تأسيس المطبعة الأميرية – ولم تكن تطبع الوقائع المصرية بانتظام ، فكانت أحياناً تطبع عدد واحد فى الأسبوع، وأحيان أخرى ثلاثة أعداد، وفى أوقات أخرى يتأخر العدد لأكثر من أسبوع وهكذا، فقد كانت خطواتها الأولى بسيطة وبدائية، وإن كانت تعكس أسلوب محمد على فى الإدارة الذى يتمثل فى إنشاء مؤسسة معينة أو نظام معين لفترة محددة لحاجة خاصة ، وتتوقف الحاجة إلى هذا النظام أو هذه المؤسسة على حاجة المجتمع من وجهة نظره
، أو على ما يراه هو مناسباً . وعلى سبيل المثال ، نظام التعليم … إلخ وكانت توزع هذه المجلة على أفراد العائلة الحاكمة وحريم محمد على ، وعلى كبار رجال الدولة والحكم ، وكبار الضباط ، ورجال الإدارة ، ثم علماء الأزهر وتلاميذ المدارس ، مجاناً فى بادئ الأمر ثم تم تحديد سعر رمزى لها بعد ذلك ، كما كانت ترسل إلى مواقع الجيش المصرى سواء فى كريت أو فى السودان … إلخ .
الدكتور إبراهيم عبده ناقداً وساخراً:
ألف الدكتور إبراهيم عبده العديد من الكتب السياسية التى تنتقد النظام القائم فى مصر بعد ثورة يوليو 1952 ومنها كتابه “أقول للسلطان” سنة 1976 موجها حديثه للرئيس محمد أنور السادات مذكره إياه بعهوده التى قطعها على نفسه فى بداية حكمه حتى عمل علاج ما أحدثه حكم سلفه جمال عبالناصر من انتهاكات وإهدار لحقوق الإنسان، ومن غياب تام لدولة القانون والدستور، فكان أول ما فعله السادات فى هذا الإطار ثورة التصحيح فى 15مايو 1971التى عزل فيها الفسدة من مراكز القوى التى زرعت الشقاء فى مصر على مدار عقدين من الزمان، وكانت نتيجة لهذه الإصلاحات انتصارنا الساحق فى حرب اكتوبر المجيدة 1973، لأنه بالعدل تحيا الأمم..ولم يقف عن هذا الحد بل طلب منه عمل انتخابات نزيهة أسوة بما يحدث فى الدول المتقدمة صاحبة الديمقراطيات العريقة، ويذكره بأن كل نقابة ومؤسسة فى مصر تجرى فيها الانتخابات الكاملة فما بالنا برئاسة الجمهورية وهى أولى بذلك، كما يطلب منه الحرية الكاملة للصحافة ولإصدار الصحف فهى ضمان للديمقراطية الكاملة ..
يقول موجها حديثه إلى السادات بعدما قال فى خطاب له بأن سلفه ترك له تركة ثقيلة فى السياسة والإقتصاد: “وتحولت بذاءات اللسان أحيانا إلى تجريدات عسكرية – تجريدة إلى “الكونغو” وأخرى إلى اليمن – أو تجريدات سرية تهدف إلى انقلاب هنا أو انقلاب هناك، فإذا فشلت هذه التجريات السرية فيما تهيأت له كانت لا تعود بخفى حنين فتترك بصماتها تدميراً بمنشأة أو نسفاً لمصنع أو اغتيالا لإنسان كما يفعل تلميذه القذافى هذه الأيام …”. (أقول للسلطان ص18).
ويواصل حديثه: “أما الوضع الإقتصادى المنهار الذى ورثه السادات عن عبدالناصر فقد حدد هذه الكارثة الاقتصادية وزير ماليتك فى بيانه فى مجلس الشعب وهو يقدم ميزانية 1976فقد أعلن أننا خسرنا 16141مليون جنيه منذ هزيمتنا فى يوينو 1967وحتى نصرنا فى أكتوبر 1973”.. ويعلق عبده على هذا ويضيف :”ويبدو أن وزير المالية كان رفيقا بالناس، فلم يرجع إلى قبل 1967 فغن السنوات العشر التى سبقت الهزيمة لها هى أيضاً اقتصادها المنهار..وهو اقتصاد لا يعرف تفاصيله أحد لأن ميزانيات الدولة والقطاع العام كان سراً..كانت أموال الشعب فى السنوات العشر تلك تبذر فى الحروب وبعثات التدمير هنا وهناك وإنشاء السجون والمعتقلات والتجسس على المواطنين فى حياتهم الخاصة والعامة..أموال مصر بذرتها “سياسة تجنيد العملاء والوكلاء وشراء الأقلام وإصدار الصحف الماجورة، واستكتاب المرتزقة الذين ياكلون على كل الموائد وينتقلون من النقيض للنقيض”.
ثم يذكر نماذج من السرقات ونهب المال العام الذى جرى بواسطة الحكام أنفسهم وحاشيتهم ولم يتوقف هذا النهب المنظم لثروات مصر حتى بعد رحيل الدكتور عبده بل هو قديم فقد رصده المتنبى فى بيته الشهير:
نامت نواطير مصر عن ثعالبها …فقد بشمن وما تفنى العناقيد
بالرغم من هذا النهب المنظم والسرقات المستمرة فمال مصر موجود لا ينضب أبداً لنها خزائن الأرض ..
“تاريخ بلا وثائق”:
هذا هو كتاب للدكتور إبراهيم عبده حاول فيه التأريخ لمصر فى عشرين عاماً منذ انقلاب محمد نجيب 23يوليو 1952 إلى ثورة التصحيح 15مايو 1971 فإذا هو يكتشف إن ما رجع إليه لا يرقى من معنى للوثائق والأسانيد ..رجع فيه إلى خطب وأحاديث عبدالناصر فلم يجد فيها ضالته المنشودة.. فالرجل وعدنا بالجنة ووعدنا بالرزق الموصول وحدثنا عن حياة للمواطنين مرفهة كريمة ترفع فيها رءوسهم بعد أجيال من الذل والاستعباد! ثم أصدر قرارات تتصل بالحريات ونظام الحكم هى غاية ما يرجوه الرعايا من راعيهم بيد أن شيئاً من ذلك لم يتحقق ولم يوضع قط موضع التنفيذ !
ثم عاد إلى صحف هذا الزمان فإذا هى جميعاً صورة واحدة مقالاً وأخباراً وتبويباً وإعلاناً، ورآها جميعا تحمل الطبلة والمزمار ..ثم قرأ كتباً وأوراقاً صدرت عن مصلحة الاستعلامات وعن تحالف قوى الشعب العاملة التى يمثلها الاتحاد الاشتراكى، ورجع إلى الكتب الرسمية التى توزع على تلاميذ المدارس وتحكى المفاخر والأمجاد، كما رجع إلى ما كتبه المرتزقة اللبنانيون ونشروا فى بيروت من مؤلفات رعاها سفيرنا ومدهم لطبعها وتوزيعها بملايين الليرات أملايين الجنيهات ..الكتب كلها صورة واحدة كصحف مصر، وكان يكفى أن يقتصر على صحيفة واحدة يقرؤها المصريون وكتاب واحد تنشره إحدى هذه الهيئات، فإن المتن سواء فى الصحف أو الكتب تكرار ثقيل وممل لأمجاد وهمية ومغالطات غبية، لكنها الدعاية الفطيرة السمجة التى رسمت وخططت حتى لا يغيب عن الآذان النقر على الطبلة أو النفخ فى فى المزماز .
وحاول أن يدرس السياسة الخارجية فى عهد عبدالناصر فبدأ بقضية الكونغو وزعيمها “لومومبا” وخصمه “تشومبى” فلم يجد ورقة صادقة تكشف عن هذا النصيب سواء اتصل برجالنا الذين حاربوا أو بمالنا الذى بذر وراح هباء..
أراد أن يعرف بالأدلة شيئا عن حرب اليمن ..الفيالق التى ذبحت فى جبال ذلك البلد التعس السعيد! ومئات الملايين التى صرفت على التجريدة التى أمر بها الراحل عبدالناصر وأطنان الذهب التى وزعت على القبائل والمشتريات التى عادت بها الطائرات لحساب أصفياء المشير عبدالحكيم عامر الذين حاربوا من مكاتبهم ومنحوا القلائد تزين صدورهم كأنهم أبطال من طروادة أو أبطال مقدونيا فى عهد الأسكنر ذى القرنين.
أراد أن يعلم شيئاً عن هذه الأحداث فلم يجد وثيقة تحكى شيئاً ، فكل الوثائق التى تتحدث عن ذلك إما ضائعة وإما فى بطون أصحابها ، وإما فى مكان لا يراد أن تنبش فيه إلا بعد خمسين عاماً، فقد يسىء النبش إلى حى أو ميت!.
لذا لم ييئس الرجل فقد دون على صفحات كتابه هذا ما رآه وعاشه وكان شاهدا عليه ملايين المصريين الذين رزق البؤس والشقاء فى هذا العصر الرهيب.
ومن النفاق ما قتل:
ألف الدكتور إبراهيم عبده كتابه المهم “ومن النفاق ما قتل”
بعدما رأى سدنة الطغاة فى كل العصور يتلونون بلون الحاكم ويغيرون جلدهم فى كل عصر ومصر، وظيفتهم هى عزل الحاكم عن الواقع وتلميعه بالباطل حفاظا على مصالحهم الضيقة جدا، ويعدد مظاهر النفاق فى عصر عبدالناصر التى كانت دعائم حكمه تقوم دائما على أكتاف المنافقين والمستغلين من أهل الثقة.. من كان سبباً فى كارثة مصر سنة «1967» إنهم المنافقون الذين أدخلوا فى روع الرئيس جمال عبدالناصر أنه جاء بما لم يجئ به موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام قالها محافظ ولم يعاقب على كفره بل رقى محافظا للعاصمة ثم عين وزيرا بعد ذلك.. ثم من الذى أفسد النظام فى عهد عبدالناصر المنافقون الذين ألفوا أغنية لاتقال إلا فى ذكر الله سبحانه وتعالى.. «لبيك عبدالناصر لبيك».. ولم يرحمه المنافقون من نفاقهم يوم وفاته فنشروا صورته تحتضن الكعبة الشريفة وتحتها كتب أنه بعث نورا للناس – تماما كما بعث محمد عليه الصلاة والسلام.
ثم ماذا.. رحل عبدالناصر وجاء السادات.. رجلا متواضعا يحنى رأسه إجلالا لتمثال سلفه فى مجلس الأمة جاء السادات وفعل العجب حتى استقطب جميع الناس ثم ماذا؟.. استفتح المنافقون دورهم الخالد فبدأت الأغانى فى تمجيد الرئيس الطيب تنشد فى الإذاعة والتلفزيون وعلى سبيل المثال وليس الحصر.. شاهدنا وزير الداخلية النبوى إسماعيل يعلن للرئيس نتيجة الاستفتاءات وقد وقف كأنه فى محراب وذكر عبارة يا سيادة الرئيس أكثر من ثلاث وثلاثين مرة ولم يستغرق اللقاء أكثر من عشر دقائق!!
وقد اعتادت المذيعة الكبيرة همت مصطفى أن تسجل للرئيس السادات حديثا يوم عيد ميلاده.. ثم رحب بخطى الرئيس السادات منذ ألغى الحراسات وأغلق السجون والمعتقلات وانتصر فى أكتوبر وختم جهاده بكامب ديفيد ومعاهدة السلام، ثم بلغ نفاق المنافقين ذروته بعد تلك الأحداث ودعمه نفاق وارد من الولايات المتحدة وأوربا باعتباره بطلا للسلام وهذا حق فالسلام أمنية مصر والعالم أجمع.. وفى مأدبة أقامها الرئيس السادات فى واشنطن قام بوش نائب الرئيس ريجان خطيبا فقال.. إن الله سبحانه وتعالى خلق العالم فى ستة أيام.. كان يخلق كل يوم ملايين البشر وملايين الزواحف والأنعام.. ثم خصص سبحانه يوما لخلق السيد المسيح عليه السلام.. وفى يوم خلق الرئيس السادات وما أظنه فى ذلك اليوم خلق شيئا اكتفاء بهذا العمل العظيم وكان ضمن الحضور من الصحافة المصرية زميل العمر دكتور مصطفى محمود والكبيرة أمينة السعيد.. التفت مصطفى محمود وأمينة السعيد إلى رؤساء تحرير الصحف وقال: إياكم أن ترسلوا بهذا القول إلى صحفكم فإن نشر كلمة بوش سوف تسىء إلى المسلمين والمسيحيين على السواء.
وفى اليوم التالى استدعى الرئيس السادات رؤساء التحرير باسم الثغر منشرح الصدر فهو «بشر» وسألهم عن قول بوش وهل استوعبوا كلامه فتقدم منافق منهم وقال إن السيدة أمينة السعيد ولم يذكر مصطفى محمود نفاقا لمصطفى.. وقال إنها نصحت بعدم نشره.. ولكنهم جميعا أرسلوا بذلك الحديث العظيم وقد نشر.. ونظر الرئيس شذرا إلى أمينة السعيد ولم يقل شيئا. صدقونى ما من أحد فى العالم يلقى هذا النفاق ويعيش وسط هذا الرياء ويقرأ ويسمع أنه منزه لايخطئ ما من أحد فى العالم يحاط بكل هذا النفاق ويبقى على طبعه الأصيل فلابد أن تغره الدنيا وأنه والأنبياء على قدم المساواة. (ومن النفاق ما قتل 1982 – ص 130-131)
ومثال آخر رواه الدكتور إبراهيم عبده: «عندما قال السادات فى خطبة ألقاها بمناسبة تأسيس جامعة الشعوب العربية والإسلامية أن رفاعة الطهطاوى قاد الجماهير لمحاربة الولاة والخديويين، فكتبت للرئيس رسالة أنبه إلى أن الرجل نشأ وعاش ومات فى حجر السلطة، وأنه كان رجل علم، ولم تكن هناك صحف تصل بينه وبين جماهير المصريين، حتى يشتغل هو أو غيره من الإعلام بالشئون السياسية. ومن طريف ما حدث أن الرئيس بعث برسالتى إلى كاتب خطبته، ويبدو أن كاتب الخطبة كان قد استعان بصديق فى كتابتها فطلب إليه أن يرد على رسالتى، وإذا بى أقرأ من غير مناسبة مقالة عن الطهطاوى فى إحدى صحف الحكومة فى 9 ديسمبر 1980 يحدثنا فيها كاتبها أن الطهطاوى ترجم دستور 1866 وأنه أول من ذكر فى كتبه لفظ (الوطنية) و(الأمة) وبذلك يكون الرجل زعيما سياسيا، مع أن كلمة الأمة ذكرها الله تعالى حين قال للمسلمين كنتم خير أمة أخرجتم للناس، واستعمل المؤرخون كلمة الوطنية والوطن قبل أن يولد الطهطاوى بقرون. وهكذا صوروا للرئيس رحمه الله أن الطهطاوى الذى ترجم الدستور بأمر من الخديو إسماعيل، زعيم سياسى يقف على قدم المساواة مع مصطفى كامل وسعد زغلول ومصطفى النحاس». (ومن النفاق ما قتل 1982 – ص 133)
ويضيف قائلا «من الخطب التى وضعت للرئيس وألقاها فى مجلس الشعب فى نوفمبر 1980 خطبة جاء فى فقرة منها أن الحقوق التاريخية لعروبة القدس «لا يمكن تجاهلها» وأنه تحدث فى هذا الأمر مع بيجين، وقال له «إن الأب اسطفانوس رفض تسليم القدس إلا للخليفة عمر بن الخطاب وكان ذلك بعد الحروب الصليبية» ومعنى ذلك أن القدس سُلمت لعمر بن الخطاب بعد وفاته بنحو ثمانمائة عام. أما فى خطبته الأخيرة فقد ظهر جهل معدى خطبه بالتاريخ حين كرر السادات ست مرات، أن نوبار باشا ولى الحكم بعد سعد زغلول سنة 1924، بينما نوبار باشا هذا مات قبل استقالة سعد زغلول، والذى ولى الوزارة بعد سعد هو زيور باشا. ومن النفاق الحقير أن صحفيا مرموقا اتصل بالرقيب الخفى الذى لا يعلن عنه، وبين له وجه الحق فى المسألة ليصدر أوامره لتصحح الصحف اسم الرجل الذى جاء فى الوزارة بعد سعد زغلول، ولم يكتف بهذا الصحفى المرموق بل اتصل بالصحف نفسها، ولما كان الجبن سيد أخلاق المنافقين فإن رؤساء الصحف لم يجرؤوا على تصحيح الواقعة حتى لا يغضب السلطان، وصدرت الصحف جميعا فى اليوم التالى إلا الأخبار وفيها أن نوبار باشا الذى مات فى القرن التاسع عشر جاء رئيسا للوزارة بعد سعد زغلول سنة 1924».(ومن النفاق ما قتل 1982 – ص 134)
ويعلق الدكتور إبراهيم عبده على كل هذه الوقائع التى لا تشكل سوى قطرة فى بحر النفاق الذى أغرقنا عبر السنين «صدقونى ما من أحد فى العالم يلقى هذا النفاق ويعيش وسط هذا الرياء ويقرأ ويسمع كل يوم وكل ساعة ولحظة أنه منزه ولا يخطئ، وأنه والأنبياء على قدم المساواة، وأن قوله لا يأتيه الباطل أبدا وأن فى مقدوره أن يرحم أو لا يرحم وأن فى استطاعته أن يرمى ببعض خصومه من رجال الدين فى السجون كالكلاب. ما من أحد فى العالم يحاط بكل هذا النفاق ويبقى على طبعه الأصيل، فلابد أن تغره الدنيا، ولا يقبل نقدا لسلطانه أو تصويبا لبيانه، فمن المسئول عن هذا كله؟، إنه النفاق الذى مهد لكل بلاء أصابنا أو أصاب السلطان».
هذا غيث من قطرات من حياة وكتابات الأستاذ الكتور إبراهيم عبده (1913- 1986) أستاذ الصحافة والكاتب الساخر الكبير والناقد الحصيف الذى اثرى حياتنا بمؤلفات جليلة القدر أبان فيها عن جانب مهم من تاريخ الصحافة العربية وصحح لنا معلومات مغلوطة وكاذبة عن عصر الهزائم والمظالم ولم يكتف بهذا بل طالب السادات ومبارك فى بداية حكمهما بأن يستفيدا من أخطاء الماضى الليم ولكن هيهات فقد بدأ السادات عصره بإنجارات وانتهى إلى ما انتهى إليه سلفه من انتكاسات، وكذلك مبارك فقد صنع بعض الانجازات فى بداية حكمه، ولكنه استسلم للفساد ولمستشارى السوء، والرجل كان لديه استعداد فطرى لصنع هذا الفساد حتى أطاحت به فى النهاية الثورة الشعبية الكبرى فى 25يناير 2011.
وقد رحل الدكتور إبراهيم عبده سنة 1986..