حذار من قراءة تلك القصة
انتفض الرجل العجوز من سريره بعد ان تراءى له في حلمه مرة اخري نفس الجموع من الناس المرتدية السواد تحاصره ولايستطيع الفكاك منهم فيتلقي اللكمات واللعنات وهو منكس الرأس إلى أن يطرحوه أرضا وينهالون عليه بالأحذية المتسخة .
ارتدي ملابسه علي عجل حتى انه لم يأخذ حمامه وهبط سلالم المنزل مهرولا تتبعه كلاب الشارع المظلم وهي تنبح مما جعله يجري بسرعة لاتتناسب مع عمره وأخذ ينظر خلفه حتى ابتعد عنها بمسافة كبيرة ومازال نباحها يتردد في الفضاء معلنا عن وجود حارس امين يقوم بواجبه علي أكمل وجه.
واتته فكرة مجنونة أن يهيم علي وجهه دون وجهه معينه وقرر ركوب القطار ليلقي به في اي محطه بعد ان يترك كل شئ وراء ظهره وما ان تخطى الباب الرئيسي للمحطة ودلف للداخل حتى أوقفه بائع الجرائد بيده بشكل مهذب وعرض عليه ان يشتري جريدة الصباح فأبى قائلا :
لقد توقفت عن شرائها من زمن فالأخبار واحدة لاتتغير!
نظر الرجل إليه مشدوها وكأنه يعاتبه وقال له :
لاشئ ثابت كل شئ يتغير ويتبدل بين اللحظه والاخري .
مد اليه برواية كتب علي غلافها حذار ان تقرأ تلك القصه فاثار العنوان فضول الرجل وسأله عن الثمن فدفع بها البائع الى يده وقال بغموض :
أنها لك بالمجان !
دق جرس المحطة معلنا عن وصول القطار فتأهب الرجل للركوب وامسك الرواية بيده اليسرى وشاور للرجل من بعيد شاكرا .
صاح الرجل محذرا :
امسك الرواية بيدك اليمني الا ان صوته ضاع وسط الزحام .
جلس يلتقط أنفاسه بعد أن أسند رأسه علي النافذة وأخذ يعد الأشجار الممتدة علي مدى البصر وما ان وصل للمائة حتي كان يغط في نوم عميق فتراخت يده وسقطت الروايه علي أرضية القطار.
التقطت السيدة الجالسة بجانبه الرواية وهي تنظر لغلافها بدهشه واخذت تقلب أوراقها وهي تنظر خلسة الى الرجل خشية أن يصحو ويراها تمسك بروايته .
احست الغموض والفضول بعد أن وجدت انها تحمل نفس اسم الرواية التي معها إلا أن الغلاف مختلف في كل منهما فأخذت تقلب صفحاتها تقارن بين الكلمات فكادت تجن فروايته مكتوبه تناشد رجلا بينما روايتها تناشد امرأة.
وقفت من مكانها تتلفت حولها عسى أن تري اي راكب اخر يحمل نفس الرواية فإذا بالمقطورة خاليه .
هزت كتفه برفق وتأسفت قائله :
عذرا هل يمكنني ان اسأل من اين اشتريت روايتك ثم أشارت إلى الروايتين .
لم يبدو عليه أي اكتراث الى ان لاحظ الفرق الذي اشارت اليه السيدة بجواره ،فنفض عن عينه النوم وامسك بروايته واخذ ينظر مليا إلى غلافها وقال باستغراب للسيدة :
هل لاحظتي ان قطاري يسير إلى اليسار ! بينما يسير قطارك إلى اليمين .
نظرت تتأمل وكأنها وجدت لذة في معرفة الفروق بين الغلافين وقالت :
كما ان قطارك يتجه إلى نفق مظلم بينما يسير قطاري في اتجاه كوبري خشبي فقدت منه أحد الألواح ومن تحته نهر ينتهي بشلال هادر يعلوه قوس قزح.
قال وقد تصبب العرق علي جبينه رغم برودة الجو وهو يشير بيد مرتعشة الي اسم الكاتب :
هل رأيتي اسم الكاتب!
صاحت بخوف :
إنه الشيء الوحيد المشترك !
لابد من وجود معني لما يحدث فلنبدأ بقرائتها سويا عسى ان نزيل القلق الذي اعترانا بعد معرفتنا اسم الكاتب.
تلعثم وهو يقرأ اول كلمه في قصته وشعر أن الكاتب يوجه إليه الاتهام منذّرا إياه بمعرفته كل شئ عن تفاصيل حياته فأراد ان يتوقف الا ان السيده اشارت اليه بالتكمله وهي تشجعه بكلمات مطمئنة.
بدأ روايته بصوت مرتعش:
إذن لقد قررت الهروب بعد أن انكشفت أوراقك التي أخفيتها طوال السنين ! لم تتخيل ولو للحظة أنك سوف تقابلني يوما وها انت الان بين يدي نفسك فاقرأ بدون وجل او خوف.
نظر الي السيده بجواره وطلب منها أن تناوله بعض الماء من القارورة التي بيدها بعد ان احس بجفاف حلقه الا انها شعرت بشئ خفي يمنعها من تقديمها له
احست ببعض الحرج بعد ان تصلبت يدها علي القارورة فحاول ان يربت علي يديها مطمئنا اياها الا انه تراجع بعد ان رأي الدماء تغطي اصابعه عند ملامسته يداها فاخفي يده وراء ظهره دون ان ينبس بكلمة .
هزته السيده برفق وطالبته ان يعاود القراءة فخاف ان تنكشف خباياه وتعلل بالتعب والإرهاق الا ان لسانه انطلق يروي حكايته بعد ان فقد السيطرة على غلق فمه.
دارت عينيه في محجرها وهو يستمع مشدوها الي لسانه الذي لم يترك كبيرة او صغيره في حياته الا وحكاها وأخذت أصابعه اليمني تهتز في الهواء رغما عنه بحركة دائرية بينما التصقت يده اليسرى بالرواية.
كنت تعرف كيف تلاطفها وتخدعها بكلماتك المعسولة لتأتي إليك غير مدركه نواياك الخبيثة لتعبث باصابعك وتتلذذ بخسة ارتعاشات جسدها الرقيق.
هل تتذكر كم رسالة أرسلت في أحلامك وكم من برهان أراك أياه ولكنك مررت عليه مرور الكرام وكأنه لا يعنيك .
كنت تلهو وتلعب غير مدرك لما تقترفه من ذنوب تضاف إلى سطور قصتك الي ان امتلأت صفحاتها التي ظننت انك أفرغتها من حملها بذهابك لمنزل الكاتب تبكي دموع الندم وتعلن توبتك وتمسح بها بعض الكلمات الا ان شيطانك تغلب علي إرادتك في كل مرة وأصبحت أسير تأتمر بأمره وتتبع هواك .
نظرت السيدة اليه بدهشة :
الآن تذكرتك ايها الشقي بعد ان نزع لسانك قناعك وبدي وجهك القبيح كما هو لم يتغير رغم مرور السنين.
تلعثم لسانه وهو يترجاها ان تسامحه الا انها وضعت يدها علي اذنيها قائله:
اليوم أنساك كما نسيتني يوم أفقدتني عذريتي علي محراب حبك الزائف.
لم تمض دقائق حتي صعد المحصل طالبا من كل منهما كتابه وتصفحهما بسرعه واشار للسيده بيده بحِبُّ ان تنزل معه المحطه لتغيير قطارها بعد ان اعاد اليها كتابها مطمئنا اياها بسير قطارها الي اماكن لم تري عينها من قبل ولم تخطر ببالها بينما ترك الرجل مذهولا في حيره من أمره ولم يجرؤ علي سؤال المحصل عن وجهته بعد ان أشاح ببصره عنه.
أتجه المحصل مع السيدة بهدوء الى باب العربة وتوقف قليلا عنده والتفت للرجل وقال بقسوه:
ستبقي في هذا القطار الي مالانهايه !
ساد الظلام اركان المكان فانتابه الذعر واصطكت أسنانه والتفت ساقه وأدرك أنه هالك فتمني لو يعود القطار إلى محطته الا ان حركة القطار تسارعت بشكل غريب حتى اخترقت سرعته حاجز الزمن وأخذت مشاهد حياته تدور كشريط سينمائي أمام عينه فصرخ صرخة هائلة قائلا:
ليتني كنت ترابا.
احدي حالات روايه اوراق في درج مغلق
هنديه
لم يصدق الطبيب أذناه وهو يستمع لمريضته تروي ماتعانيه من الام نفسيه بعد تعرضها للاغتصاب داخل منزلها .
كانت المريضة في ريعان الشباب فائقه الجمال بعد ان جمعت في تقاطيعها خليط من اهل الخليج والهند بسماره وجهها وعيونها الواسعه وشعرها الأسود الفاحم وابتسامتها الساحرة فبدت أسنانها البيضاء وكأنها لآلئ تضوي ببريق يخلب العيون.
قال الطبيب محاولا ان يستكشف ماوراء قصتها :
الم تحاولي الصراخ لجذب انتباه من بالمنزل لمساعدتك!
قالت بسخريه :
وماذا لو علمت ان اخوتي هم من يغتصبوني ويتناوبون علي كل ليله خاصه بعد ان مات والدنا منذ شهور قليلة .
اعتقد الطبيب في البدايه انها مصابه بتخيلات جنسيه الا ان كلماتها الصادقه لم تترك أي مجال للشك فاعتبر حالتها زنا المحارم إلا أنه راجع نفسه عندما قالت له كل ذلك يتم تحت سمع وبصر عمتي التي لم تفعل شيئا سوى وضع مزلاج علي باب غرفتي حتى أغلق علي نفسي فبت كالفريسة في قفصها تري الذئاب يحومون من حولها لينتهزوا فرصه اغفاءة لينقضوا عليها وينهش لحمها.
كانت المسكينة ترتعد وتبكي وهي تقول :
لقد مات من كان يدفع ذلك البلاء عني .
سألها الطبيب باستغراب :
واين والدتك من ذلك الأمر !
قالت هازئة :
والدتي! يهيئ إلى أنها لو كانت معي لاغتصبوها أيضا!
قال الطبيب أنك تتحدثين عن اهلك وكأنهم ذئاب بشريه قالت بحرقه بل ألعن من ذلك !
سألها الطبيب اذن هذا هو السبب في محاولتك للانتحار بالأمس فقالت وهي تهز رأسها يمنة ويسرة نعم إلا أن السبب الحقيقي هو إيجاد ملجأ لي في مكان آمن .
قال الطبيب حسنا فعلت وسأعمل علي أن اوفر لك الحماية علي ان تحكي لي بالتفصيل كيف واتت اخوتك الشجاعة أن ينتهكوا عرض أختهم .
قالت بتعجب :
ومن قال لك اني أختهم ! انا في نظرهم ابنه الخادمه الهنديه والتي كانت يوما فريسه لهم إلى أن تزوجها والدهم وأنجبني فأسبغ علي حبه وحنانه بعد ان لفظه اهله ومجتمعه علي فعلته الشنعاء ودبروا الدسائس لامي حتى أبعدوها وعادت إلى وطنها تعاني الهجر والفراق الا انها كانت مسرورة الخاطر بعد ان وفرت لي حياة كريمة وابعدتني عن شبح الفقر والجوع في وطننا الأم .
كنت متفوقه في دراستي ولعلها كانت الطريقة الوحيدة حتي اكتسب حب واحترام ابي الذي عاني من فشل اولاده الثلاثه وطلباتهم المستمرة دون أدنى احترام لكبر سنه وحاجته للرعاية والاهتمام الذي كنت اوفرها له عن طيب خاطر.
سأل الطبيب بتحسر :
الم تجدي احد من الاسرة يكن الحب لوالدك فيساعدك علي مصابك !
قالت المسكينه :
لاأحد فقد تخلى عنه الجميع واعتبروه مختل العقل لفعلته حتى اخته الوحيده كانت تنظر الي دائما نظرة تكبر وخيلاء فتحط من شأني وترهقني بأعمال المنزل وحاولت ان توقفني عن الدراسة الا ان ابي كان مصمما علي تكملة مسيرتي الدراسيه بعد ان رأى في الإصرار علي النجاح فقد كنت املك من سماته العناد والمثابرة والصبر.
الي ان اصيب ابي يوما بجلطة دماغية أقعدته في الفراش فكنت دائما تحت قدميه ألبي طلباته وكأنني امارس دوري الطبيعي وما جبلت عليه امي من خدمته منذ زمن.
كان الغيظ والحقد يملأ صدر اولاده الثلاثه حتى تجرأ احدهم علي أمامه وحاول ان يقبلني بعنف فصرخ ابي في فراشه وخرجت كلماته لا عنه إياه يحذره من التمادي الا أنه ولجبروته صمم علي إذلال أبيه واهانته فطرحني أرضا واعتلاني وسط ضحكات اخوته توفي علي أثرها والدي مهموما منكرا لما رآه بعينه في حياته والقي نظرته الاخيره الي في استكانة وضعف وكأنه يتأسف لما سيحدث لي من بعده.
صدق حسه بعد وفاته وخاصه بعد ان اكتشفت انه كتب لي جزء كبير من ثروته تعويضا لما سالاقيه فكادت اخته ان تجن واقسمت بعدم حصولي علي حقوقي واطلقت الذئاب علي ينهشونني كل ليله حتى اترك البيت الا أنني صممت في داخلي ان احصل علي حقوقي الشرعية فاتصلت بوالدتي في الهند واخبرتها بكل التفاصيل فاتصلت بدورها بالسفارة تناشدهم بمد يد العون ففكرت في تلك الحيلة وانا الان في انتظار رد السفاره.
مرت ايام لم تتلق اي رد فاصبحت المسكينه في حالة توتر دائم تخشى الخروج من المستشفى والعودة الي منزلها فكان الطبيب يواسيها و يشجعها علي الصمود وطالب لجنة العنف الأسري علي إيوائها في احدي الاماكن الخاصه الا انهم لم يجدوا لها مكانا الا في إحدى بيوتات كبار السن بدون مأوى فوافقت دون تردد وهي تقول :
اي مكان افضل الف مره من وجودي في غرفه بدون ابواب !
قضيت هنديه اكثر من شهر وسط كبار السن بمشاكلهم الصحية وبقيت تعاودهم وتشد من أزرهم بضحكاتها ولمساتها الحانيه فأحبها الجميع وخاصة مديرة الدار التي عرضت عليها البقاء كمساعده الا انها فضلت العودة لأحضان أمها بعد ان حصلت علي كافة حقوقها الماديه.
مرت سنوات عديدة الي ان ذهب الطبيب يوما لرحله سياحية مع زوجته وجال له خاطره الاتصال بها والمرور علي قريتها ليجدها هناك وقد تكفلت ببناء مبنى متكامل للمشردات وتوفير مأوى لهن وتقديم المساعده بتعليمهم الاعمال الحرفيه ليصبحوا أفراد منتجين للمجتمع لا يمثلوا عاله علي احد او عبئا علي ذويهم .
كانت والدتها تجلس في مكان غير بعيد تنظر اليها بكل فخر ، تقدمت ابنتها امام الطبيب وزوجته وأشارت بيدها اليه تعرفه لامها بأنه منقذها في غربتها فاصرت الام علي ضيافته وزوجته وهي تقول بكل ود :
ان الضيوف هدية من الله يختبرنا بهم ليري كيف نتعامل مع هديته!
مرت الايام سريعه وعاد الطبيب مع زوجته ولم يتوقفا لحظة طوال رحلة العودة عن الحديث عن كرم تلك الأسرة الرائعه
التي أثرت احساسهم بالخير والسعاده .
قالت الزوجة وهي تنظر إلى زوجها الطبيب حالمه :
الان فقط علمت معني كلمة الراحه النفسيه.
حاله من روايه اوراق في درج مغلق
شوق
دخلت شوق عيادة الطبيب مصاحبة أحد الأشخاص وقد ارتدت فستانا أنيقا يكشف عن مفاتنها ويوضح تفاصيل جسدها المرمري رغم ارتدائها الحِجَاب !
ما إن جلست حتى وضعت الساق فوق الساق واخذت تنظر في عين الطبيب نظرات لها أكثر من معني سألته بتحدي :
هل تؤمن بصداقة الرجل والمراه!
قال الطبيب وهو ينظر الي ملفها الطبي محاولا تحاشي نظراتها الناريه:
هل أطمع أن تبدئي في تعريفك عن نفسك!
قالت وقد ارتفع صوتها بشكل غير متوقع:
لااعرف من اين أبدأ فلدي الكثير لا أرويه لك ، أزاحت الحِجَاب وانسدل شعرها الأسود علي وجهها وكأنها أرادت أن تخفي ما تكنه بداخلها إلا أن ضحكه ساخره انفلتت من شفتيها وقالت :
هل ستتحملني فأنا لن اسكت الي ان احكي كل شئ عن حياتي ويجب ان تعرف انني لااحب المقاطعة فلقد انتقلت من طبيب نفسي لآخر بسبب ذلك الأمر فلا أحد منهم يسمعني جيدا فقط يصفوا الدواء وكأنه هو الحل الوحيد، ألا توجد حلول أخرى فلقد تناولت مايكفي لفتح صيدلية وعانيت من الآثار الجانبية وخاصة دواء الليثيوم رغم انني اكون في احسن حالاتي وانا مداومه عليه .
أشارت بيدها باستهزاء للرجل بجانبها وقالت وهي تضحك
نسيت ان اعرفك علي صديقي!
تجهم وجه الرجل وحاول ان يعتذر بالقيام والخروج من الغرفة وقد ملأه القلق والخوف فامسكته بقوة محذرة إياه بتركها وحدها.
استجاب لأمرها دون مناقشة وطلب أن يتحدث مع الطبيب علي انفراد فقام الطبيب معه بهدوء الى باب الغرفة يستوضح الأمر ففوجئ به يخبره بأنها اتصلت به وغازلته لقضاء وقت ممتع سويا وفِي طريقهما للعودة أشارت عليه بالمرور علي المستشفى فلم يمانع وأقسم أنه لم يدرك انها مريضه نفسيه .
استسمح بمغادرة الغرفة حيث خشي علي سمعته كرجل متزوج فقال له الطبيب :
سأتركك رأفة بحالك عسى أن يكون ذلك درسا لك فانسحب الرجل بسرعه وهو يتمتم :
لن أفعلها مرة أخرى.
عاد الطبيب اليها ليجدها مهتاجة منفعلة علي بقائها وحدها واخذت تصرخ بكلمات انطلقت من فمها دون توقف :
لقد تركني الجبان وتخلي عني كما تخلى عني الاهل والاصدقاء ،
ضغط الطبيب علي الزر الأحمر أسفل المكتب ولم تمر ثوان حتى آتي أفراد الأمن فأخذت في مقاومتهم بعنف ضار وافلتت من يدهم محاولة الهروب فانخلع عنها حجابها وانطلقت إلى الشارع من الباب الخلفي للعياده فكادت أن تدهسها سيارة وسط دهشة المارة إلا أن سيارة الإسعاف أتت مسرعة يصحبها بعد ذلك فريق التمريض الى القسم الداخلي.
لم يمر سوى أسبوع أو أكثر علي العلاج حتي بدت هادئة متزنة وقد تبدلت بامرأة أخرى ففارقتها الضحكة الرنانة وتدثرت بملابس فضفاضة واخفت وجهها بالنقاب وجلست قابعة تنظر إلي الطبيب بخجل :
هل تعتقد أن ظروف حياتنا بصغرنا تؤثر على مجمل حياتنا عند الكبر!
استأذنها الطبيب بالرد علي سؤالها بعد معرفة بعض التفاصيل عن الفترة التي سبقت دخولها المستشفى فقال دون أن يشير لحادثه صديقها الذي اصطحبته معها ذلك اليوم .
كيف كان مزاجك في تلك الفترة!
قالت وهي تكاد تهمس :
كانت السعادة تغمرني واضحك من قلبي واسخر من أهلي وأصدقائي بكلمات قاسية يملؤها الغرور والعظمة فكنت دائماً أردد بانني ملكه جمال مصر وعلى الرعية أن تستمع دون مناقشة فلا يستطيع أحد أن يقاطعني لعلمهم بطبيعة مرضي.
سألها الطبيب:
هل كنت تنامين جيدا ذلك الوقت!
قالت وهي تهز رأسها علي العكس تماما فكنت لا احتاج للنوم بتاتا وكانت طاقتي هائلة أدور في المنزل طوال اليوم بدون اي تعب.
سألها مرة أخرى :
هل أقمت أي علاقات غير مشروعة تلك الفترة !
صمتت وقد احست انه يعيد عليها ماكانت تخشى التكلم عنه فشجّعها الطبيب بهدوء فقالت علي استحياء:
كانت لي صديقه بنفس عمري مصابة بنفس مرضي تعرفت عليها في إحدى العيادات ، كانت تتحدث مع الشباب للتنفيس عن الكبت لتشعر بأنوثتها فتبث لي لوعتها وذهبت معها يوما لمقابلة صديقها بإحدى المولات وكان معه صديق يكبره ببعض الأعوام ترك لي هاتفه مكتوبا في ورقة صغيرة دسها بيدي راجيا أن أتحدث معه في أي وقت أشاء.
اتصلت به قبل حضوري اليك بالعيادة واتفقنا ان نذهب الى احدى الشقق المفروشة ثم صمتت مرة أخرى وهي تردد :
وأنت تعلم ماحدث!
هز الطبيب رأسه وكأنه يوافقها علي معرفته وسألها:
هل حدث لك أي خسارة ماديه !
قالت صراحه لا فقد كنت حريصة علي الأموال إلا أنني في هذه الفترة كنت اصرف ببذخ شديد , كنت أثق بالناس بسهولة و اشعر بروعة تجربة المغامرة فادخل معهم في مشاريع خاسرة كلفتني الكثير.
سألها الطبيب :
هل تتذكري مدة تلك السلوكيات.
قالت وهي تحاول ان تتذكر:
أسبوع او اكثر تقريبا وبعدها أعود للانعزال والوحدة وتأنيب الضمير. أخذتني والدتي لمكه لعمل عمره وأتذكر أنني كنت أجلس بالحرم بالساعات استغفر الله ، حاولت مرارا ان ابتلع بعض الحبوب بغرض الانتحار الا اني كنت أخاف من عذاب النار فاتراجع وانا اشعر باليأس يدب بداخلي.
أعاد سؤاله وكأنه يبحث داخل عقلها عن سبب انتكاستها:
هل فقدت انسان عزيز عليك تلك الفترة !
انهمرت دموعها وهي تتذكر وفاة والدها منذ أسابيع والذي كان مصابا بنفس المرض ويدرك أن الأمر ليس بيدها ففقدت معه الحنان والحماية وشعرت بأنها تقف على أرض رخوة فانسحبت إلى أسفل لاتدري كيف تخرج من النفق المظلم بعد أن أحست بالضياع بفقدانها بوصلة حياتها و تناوبت عليها فكرة الانتحار إلا أنها كانت تُنقذ في اللحظه الاخيره.
قال الطبيب بطيبه :
الا يوجد احد في العائله يمكنه أن يحل مكانه في حمايتك!
ردت بخيبه :
لايوجد بديل لأبي فحتى امي قد ملت من رعونتي واتهمتني بسوء السلوك غير مدركة لطبيعة المرض كما كانت تفعل مع أبي الذي كان يعاني من نوبات الهوس المتكررة وفِي اعتقادها انه مس شيطاني أصاب أسرتنا.
أكد الطبيب علي صحة تشخيص مرض ثنائي القطب واوصاها بمتابعة العلاج حتي لاتحدث اي انتكاسة فوافقته بعد ان شعرت ولأول مرة أنها وجدت من يستمع إليها بود وحنان فتشجعت قائله:
كنت أودّ أن استمع لرأيك عن صداقة الرجل والمرأة
قال الطبيب بأسف:
هناك دائما مصلحه مستترة لا نكتشفها إلا بعد فوات الأوان!!
قالت وكأنها تتغابي بعد ان فهمت مقصده:
هل يمكن مزيدا من الشرح .
قال وكأنه لم يسمعها وأكمل بهدوء:
علاقة الرجل والمرأة كعلاقة الصياد و الفريسة والصياد هنا يمكن أن يكون الرجل أو المراه وكذلك الفريسة
فإذا كان الصياد ماهر والفريسه تستحق المعاناة لاصطيادها ستظل العلاقة قائمة حتى هزيمة واستسلام أحد الطرفين
قالت وهي تحاول أن تثبت حسن نيتها:
من غير المعقول ان ينطبق كلامك علي جميع الحالات فاكيد هناك صداقه بريئه.
ضحك الطبيب قائلا :
فقط عند بلوغ أرذل العمر عندما تقل مهارة الصياد أو تنتهي ميزة الفريسة هنا تصبح العلاقة بدون مصالح وأشبه الي اداء الادوار المعتادة للقضاء على ملل الحياة دون نية الاصطياد.
قابلها الطبيب ذات يوم في احدي النوادي مرتدية معطفا أزرق بأزرار سوداء عاجيه يحيط خصرها حزام من نفس قماش المعطف وقد عقدته مرة واحدة وانسدلت أطرافه علي الجانبين وقد لفت حول رقبتها ايشارب برتقالي اللون فبدت وكأنها لوحة فنية خلفيتها أشعة الشمس الذهبية.
جلس بجوارها شاب بهي الطلعة متناسق القوام وكانت صوت ضحكاتهم تهز المكان فأشارت علي الطبيب من بعيد وقدمته إليه باحترام شديد وهي تغمز بإحدى عينيها :
إنه صديق حقيقي ويود ان يتقدم لخطبتي وقد أعلمته بطبيعة مرضي إلا أنه ومن الغريب وجدته مثلي ثم رنت ضحكة مجلجلة .
أمسك الفتي يدها بحنان بالغ وسأل الطبيب بقلق :
هل يمكن أن نتزوج ؟
قال الطبيب بعد أن أحس بالحرج :
لاداعي لكل هذا القلق ودع الايام تفصَل في هذا الأمر.
اخذت شوق تتبادل النظرات مع صديقها في صمت الى ان قطع فتاها الصمت بقوله وهو يحاول أن يلطف من كلماته :
لن اجد انسانه تفهمني اكثر منك فأنت تعلمين تماماً ما اشعر به وانا كذلك ولقد تأكدت من رغبتي بالارتباط بك واريد ان اسئلك الآن :
هل أنت مستعدة للارتباط بي ؟
ظل الصمت من جانبها فأعاد عليها سؤاله مرة أخرى فقالت وهي تدمع :
لاادري انا جد خائفة أشعر أني يمكنني احتمال نوبتك ولكني واثقة أنك لن تتحملني اذا لاقدر الله انتكست حالتي .
خلع الشاب كوفيته ووضعها حول رقبتها بعد ان احست ببروده الجو وقال لها بحب :
ساحيطك دائماً بحبي وحناني ولن تندمي علي قرارك .
قال الطبيب وهو يهم بالوقوف تاركا اياهم في الجو الرومانسي بعد ان شعر بالخيبة لعدم قدرته علي إسعاد زوجته بنفس القدر :
ابعدا الهواجس فلقد عانيتم الكثير ولا تنسيا إنكما نضجتما بتجاربكم و تعلمتم من فشلكم ولم تعدي ياشوق صغيره او مجبرة إنما محركك هو اختيارك .
عوده لقصص رواياتي الاخيره اوراق في درج مغلق ( بعياده طبيب نفسي)
دلال
اشتعلت الغيرة في قلب دلال بعد ان علمت ان زوجها تزوج بأخرى، باتت ليلتها في سهاد تفكر كيف هانت عليه العشره تصارعت الأفكار داخل رأسها يغذيها الحقد والغضب انتصرت فكرة إشعال منزلها كما أشعل النار في قلبها فقامت تخطو إلى المطبخ بعد ان اعماها الغضب واخرجت صفيحه الكيروسين واخذت تسكبها علي مرتبة نومها التي شهدت احلي ليالي عمرها وكأنها تحرق كل شئ جميل في حياتها معه ، امسكت عود الثقاب وأخذت تبحلق في سريرها وتتخيل زوجها نائما في أحضانها فبصقت بقرف علي خياله واشعلت عود الثقاب ورمته علي السرير ثم أشعلت العود الثاني لتلقيه علي الستائر إلا أن قبضه يد زوجها امسكتها بقوة وشدتها لخارج الغرفه بعد ان القي بطانية علي الجزء المشتعل من المرتبة.
أخذت دلال تصرخ وتركله بقدميها صائحه:
اتركني ايها النذل الجبان لن أجعلك تستمتع مع امرأه اخري علي سريري .
لطمها بكفه الغليظة واتهمها بالجنون بعد ان رأى الشرر يتطاير من عينيها وأقسم ان يرسلها الي مستشفى الامراض النفسية ليحجزها هناك طوال العمر قائلا :
لن أتسامح معك هذه المرة فقد تعبت من خيالاتك المريضة .
تذكرت دلال أنه احضر الاسعاف اكثر من مره يأخذها عنوة بعد ان يحقنونها بابره لاتشعر بعدها الا وهي في المستشفي .
فأخذت تكيل له اللكمات وهي تبكي وتصيح :
أنت سبب جنوني !
أحس بالألم يعتصره وهو يراها علي تلك الحال فقال لها بحيره:
من قال لك انني سأتزوج !
قالت يائسه :
أبنتي !
تأكد ان الحاله عاودتها وقال والالم يعتصره ابنتك ماتت يادلال وقد خنقتها بيديك بعد ولادتها بأيام !
اقتربت سيارة الإسعاف من المنزل وارتفع صوت بوقها معلنا نهايه الموقف بأخذها مباشرة دون مقاومة هذه المرة وتتطلع الجيران من النوافذ يمصمصون شفاههم يقولون لقد فعلتها دلال مرة اخرى.
عاد الجيران كل الي حياته وبقي زوجها وحيدا بالمنزل يتذكر كيف أوصاه عمه بالزواج منها بعد أن ماتت أمها بنفس المستشفى .
لم يكن يدرك طبيعة مرضها فقد كانت تمتلك المنطق والحجة إلا في بعض الامور كانت تبدو منها افكار غريبه حول السحر والجن فكان يعزيها لمجتمعها الريفي وقسوة زوجة عمه الثانيه التي أخرجتها من المدرسه فلم تنل المسكينة سوى قسط ضئيل من التعليم وباتت بينها وبين زوجه أباها العداوة لتصرفاتها الغريبة فضاق والدها ذرعا بها وأرسلها إلى جدتها التي تشربت منها تلك الافكار الباليه.
تذكر كيف كانا يقضيان الليل سويا علي نفس السرير الذي حاولت ان تحرقه وتذكر كلماته الحلوة التي كان يسكبها في اذنها فتزيد نشوتها و ترتعش بين يديه كعصفور يحاول الفكاك ليعود مرة اخري بعد ان يتلذذ بذلك القيد الوهمي.
بدأت اعراض الحمل فبالغ في حبه ودلالة إلا أنها كانت ساهمة لا تبدو عليها أي مشاعر الفرحة بمولودهم الاول .
صارحه الطبيب بأن نسبة كبيرة من السيدات تمر بفترات اكتئاب أثناء وبعد الحمل فراعها اكثر وبقي معها يساعدها
بكل وسيله الا ان تجهمها ازداد بشكل ملحوظ وبدأت عصبيتها تظهر بوضوح وكلامها عن الجن والشياطين يزداد يوما بعد يوم حتى فاجأته يوما بالقفز داخل غرفتها في محاولة للتخلص من الجنين ، حاول ان يثنيها عن فعلتها الا
انها اخذت تضرب بطنها بكلتا يديها صارخة :
أنها ليست أبنتك ! ولابد من التخلص منها.
كان يعلم بداخله أنها لايمكن أن تخونه فقال مستسلما محاولا تهدئتها لاتخافي أنا أحبك وأريدك حتى لو لم تكن ابنتي.
عاودت صراخها قائله :
أنك لاتفهم شيئا انها ابنة الجن ! لقد كان يعاشرني بمجرد خروجك المنزل .
انخرطت في البكاء وهي تقول لقد حاولت ان امنعه إلا أنه كان يقيدني ويشل حركتي.
احضر الإسعاف يومها بعد ان حاولت ان تغرز السكين في بطنها وأشار الطبيب بعمل جلسات كهربائيه بعد تشخيصها اكتئاب ذهاني الا ان والدها رفض تماما الفكرة وما ان خرجت المولودة للحياة حتى ساءت حالتها ورفضت إرضاعها .
أخذ والدها بالتحايل عليها إرضاع ابنتها وناولها إياها معتقدا أنها ستشعر بالأمومة إلا أنها وضعت المخده علي أنفها الرقيق فاختنقت المسكينه وماتت علي الفور .
عادت مرة أخرى للمستشفى الا ان الطبيب اصر علي الجلسات الكهربائية ولم يستطيع أباها الرفض تلك المره.
نصحه عمه بالزواج من اخرى كما فعل هو بعد وفاه امها لتساعده علي تحمل مشاق الحياة الا انه كان من الصعب عليه ان يجد امراه ترضي ان تشاركها زوجة أخرى وخاصة عندما تعلم انها مصابه بمرض نفسي.
فاتحة يوما صديق بالعمل بان يتزوج اخته التي لم يكن لها نصيب في الزواج ولا مانع لديها أن تحمل أعبائه فقد كانت طيبة القلب تدرك حجم معاناته .
استسلمت دلال لزواجه من أخرى بعد أن أقنعها والدها بحق زوجها المشروع وخاصه في مثل ظروفه ونصحها بتقبل الامر ووعدها بأن زوجته الاخرى تساعدها وتكون معها كالاخت .
كان يوم الزواج غريبا علي الجميع بعد ان التمت الأسرة جميعها تبارك للعروس واذا بدلال تدخل اليهم وتسلم علي كل منهم فردا فردا وكأنها هي العروسه واصرت علي عمل كبسة الأرز باللحم بنفسها .
احس زوجها بالفرحة عندما رأها تعمل بكل جد في المطبخ فترفع القدر علي النار وتكيل الماء ونضع الأرز واللحم وانتشرت الرائحه الذكيه بأرجاء المنزل دليلا علي المحبة الا انهم فوجئوا بدلال ترفع الغطاء عن القدرة وتنظر بارتياب داخلها لتصرخ بصوت عالي:
ثعابين بالقدرة وفرت هاربة تولول .
ساد الهرج وأخذ الجميع يبحثون عن الثعابين وبقيت دلال تصرخ ،تأكد زوجها بعدم وجود اي ثعبان وانها نوبه هذيان عاودتها نتيجة الضغط النفسي لرؤيته يحتضن زوجته الثانيه ويقبل رأسها معلنا زواجه.
انطلقت اْبواق عربه الاسعاف تدوي وبريق أضوائها يضوي ووقف الجيران يمصمصون ويتحسرون علي زوج دلال الذي لم ينعم بليلة هانئة .
أصرت زوجته الثانيه ان تذهب معه للاطمئنان علي دلال صباح اليوم التالي فذهبا سويا الي هناك و فوجئ بصراخ ممرضات القسم بأنها هربت من المستشفى !
أمر الطبيب بالبحث عنها في أروقة القسم وغرف المرضى الاخرى وان يبحثوا في جميع الدواليب الي ان وجدوها مختفيه في إحداها في وضع القرفصاء تحتضن ركبتيها بيديها وتهذي بكلمات غير مفهومه ثم سكتت تماما عن الكلام وعاد زوجها وزوجته يتحسرون علي حالها.
جاء الطبيب وحاول ان يشجعها علي الكلام إلا أنه باء بالفشل بعد ان رفضت تماما الكلام .
أعلنت إضرابها عن الكلام وزمت شفتاها فاحضر الطبيب ورقه وكتب أسئلته وناولها القلم للاجابه عليها فأمسكت القلم بيد مرتعشة ثم قذفته بعيدا ،طمئنها الطبيب و اخبرها بانه سيضع أسئلته بشكل آخر ولايريد منها سوي كلمة نعم ام لا فهزت رأسها بالموافقه ، كان السؤال الأول عن معرفتها بالمكان ورسم ثلاثة أشكال مستشفي مدرسه منزل فاشارت الي المستشفى تلاها سؤال تالي عن مزاجها ورسم عدة وجوه بمختلف المشاعر فاشارت إلى الوجه الحزين الباكي توالت بعدها الأسئلة بنفس الطريقه الي ان شعرت بالاطمئنان واخرجت كلمة او اثنتين ثم اخذت تتحدث معه بحريتها بعد ان امر الجميع بالخروج.
داومت دلال علي ادويتها واخذت تشعر بتحسن شيئا فشيئا ، كانت تحضر الجلسات الجماعية التي كان يديرها الطبيب بنفسه وكان شرحه وكلماته الهادئه سببا كبيرا في إضفاء جو من الهدوء والسكينة بالجلسة وخاصة أن إعمار المريضات متفاوتة وكل تدلي بدلوها في مشكله الاخري وهو يستمع إليهن ويضيف بعض الجمل لتساعدهم علي فهم حقيقة مشاعرهم
كانت جميع المريضات تثني علي أسلوبه الي أن فوجئ في إحدى الجلسات بدلال تستأذن في الكلام وعندما بدأت قالت اسمح لي ان كلامك اكثر من رائع إلا أنه ليس في مكانه الصحيح ، توقف الجميع عن الكلام مشدوهين بقولها الجرئ الا انها اكملت:
من الواضح ان معظم من بالغرفه يعانون من مشكلات مع أزواجهم لأنهم السبب في إحضارهم هنا وعلى هذا لماذا لاتقدم نفس الجلسات للأزواج ليتقوا الله فينا و يعاملوننا بالحسنى كما أوصى الرسول.
حاول الطبيب ان يخفف من توتر الجلسه بعد أن شاركتها الأخريات برأيها وكادت ان تنقلب الجلسة الى مناوشات ومناقشات جانبيه فخاف ان يفقد السيطره ورد بلباقة :
اسمحي لي يادلال وجودكم هنا يعني انكم تحتاجون للمساعده فأي إنسان يلجأ للطبيب ليس بغرض العلاج فقط لكن لإيجاد الحل المناسب لوضعه وعليه فسنري سويا مايمكن عمله قالت وكانها زهقت من كلماته المعسوله :
لقد فقدت الثقة في الله فكيف يكون عادل و يبيح تعدد الزواج للرجل رغم ما تقاسيه الزوجه من آلام حتي ايه (وعسي ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم ) ماهي الا لبث الأمل ودفعنا لتقبل ما نكرهه دون نقاش !
صاحت المريضات بكلمات الاستغفار الا إنهم عادوا لمناقشة فكره التعدد مابين مؤيده ومعارضه.
عاودت المريضة طبيبها بالعياده وفِي كل مره يجدها احسن من المرات السابقة فلم يدري أهو مفعول الادويه ام انها استسلمت للواقع الي ان جاء يوما وجدها تدخل عليه وهي تحتضن ضرتها بمودة وحب قائله :
أتذكر عندما شككت في قول الله ان مانكرهه يمكن أن يكون خيرا لنا .
قال الطبيب باستغراب :
وما الذي حدث حتي جعلك تؤمنين بتلك الآية الان .
نظرت لضرتها والدموع في عينيها لقد انقذتني هذه الانسانه الخلوقة من موت محقق بعد ان نسيت اللبن علي النار فانسكب علي شعلة الغاز وأطفأها.
تسرب الغاز ولم اقوى علي الحركه وفقدت الوعي فجاءت الي مسرعة وفتحت الشباك وحملتني علي ذراعيها لخارج المنزل بعد ان اغلقت شعلة الغاز فكتب الله لي الحياة علي يد من كنت لااطيق سماع اسمها .
نظرت اليها مره اخري وتأسفت علي قولها الا ان الزوجه الاخرى احتضنتها بكل حب وقالت لا تنسي انك اختي في الله وعسى الله ان يجمع قلوبنا على الخير دوما .
طلب الطبيب من ممرضته وضع تلك الآية الكريمة في إطار علي ان تعلقها بمدخل العيادة قائلا بخشوع:
صدق الله العظيم.
احببت ان أشارككم قصتي القصيره (حلم امرأه عجوز) كفاصل لنواصل حالات من روايتي (اوراق في درج مغلق)
حلم امرأة عجوز
تأملت المرأة العجوز وجهها في المرآة وهي تتأهب لارتداء ملابسها ووضع زينتها للاحتفال مع أولادها وأحفادها بعيد ميلادها. أخذت تحدق في سمات وجهها وتقاطيعه فاندهشت لوهلة إذ رأت تجاعيد بشرتها خطوط زمن عبر.
ابتسمت لتلك التجاعيد وقالت لنفسها:
لكل من هذه النقوش ذكرى مرت بي عبر وجودي.
انتهى الحفل بسلام و تركها أولادها لوحدتها مرة أخرى وعادت إلى سريرها ممسكة بعصاها , تمددت وهي تشعر ببعض الآلام بظهرها الذي انحنى وكأنها حملت عليه متاعب عالمها الذي عاشته بحلوه ومره .
كانت ذكرى زوجها تعاودها بين الوقت والآخر، رأته يوما في احدى احلامها مسجونا في قفص حديدي يطلب منها بكل صلف وغرور أن تبرئ ساحته أمام القاضي ليضمن دخول الجنه!
احست برجفه ايقظتها شعرت بدنو أجلها وجلست تفكر وتتذكر سنوات عمرها التي قضتها معه وكأنها تراجع ملف قضيه هامه للبت في الحكم عليها.
دار الحوار بينهما في كل حلم وأخذت تستحلفه أن يطلعها علي سر طلبه ،تردد في الإجابة خوفا من أن تخذله كما خذلها في حياته إلى أن هددته بطرده من أحلامها ،تلعثم وهو يجيبها ما أدركه بعد وفاته وانتقاله للعالم الاخر ان الحياه ماهي الا مجموعة من الاختبارات ولكل اختبار درجة الا ان الدرجة الكبيرة في إحداها لا نعلمها في دنيانا وأنه بالصدفة علم من أحد الملائكة القائمين علي امره بان اكبر درجات اختباره كانت في معاملته لزوجته في الدنيا .
سألته بدهشة:
وماذا عن صلاتك التي داومت عليها عمرك وذهابك للعمرة والحج لغسل ذنوبك كما كنت تدعي !
ضحك هازئا وقال :
علمت بعد فوات الاوان ان تأديتها في غرفه بالمنزل بخشوع خير وأبرك فلم أنل من عنائي وسفري الا درجات قليله لاتعد علي أصابع اليد!
قالت وكأنها تذكره بهجرانه لها:
وماذا عن وقتك الذي أفنيته في المحاكم تدافع باستماتة لتبرئة المتهمين.
قال وهو ينظر للملاك الواقف بجواره :
لقد كنت اعمل كما أمرنا الله ، هزه الملاك بجناحه فاضطرب الزوج وأردف يهمس:
الا انني لا انكر انني اهملت عائلتي ولم احسن اختيار القضايا التي ترافعت فيها أنقصت من درجاتي الكثير !
صاح يرجوها وقد كادت تطفر الدموع من عينه لم يتبق لي سواك فمصيري معلق على كلمة مِنْك!
أصبحت احلامها متعتها في الحياة وقد شعرت بالتلذذ لإحساسها في كل مرة بمدى أهميتها في تقرير مصير زوجها فاعلنتها صراحه:
فلتكن محاكمة عادلة !
وقفت على منصة وكيل النيابة تكيل له التهم واحدة وراء الاخرى وأرتدي هو ثوب المحاماة يحاول مستميتا أن يدافع عن نفسه بينما جلس الملاك علي منصة الحكم وقد أصابه الملل بعد أن تخيل للحظات ان الزوجه ستنقذ زوجها بكلمة واحدة وينتهي الأمر.
بدأت الزوجة بأول اتهاماتها لزوجها قائلة :
أنك إنسان بخيل!
قال وهو يكاد لايصدق أذنيه ويشير بيده لنفسه متعجبا كيف تجرئين علي قولك لقد جمعت لكم الأموال لتنعموا بها حرصا عليكم من غدر الزمان.
قالت وهي تشعر بالنفور الذي طالما أصابها في حياته :
ليس هناك أسوأ من الذي يمسك يده و يحبس ماله ليحرم زوجته وأولاده من التمتع بالحياة بسبب الخوف غير المبرر من المستقبل.
وقف حائرا يدافع عن نفسه بانغماسه في عمله الا انها أجهزت عليه بقولها انك بخيل حتى في عواطفك وهي أشد قسوة من بخلك المادي فلم اسمع منك أي ثناء على ماقدمته لك من خدمات أو عبارات غزل ومديح بينما وزعت كلماتك الطيبة ومشاعرك للآخرين.
أشار بيده يتهمها بأنها هي التي قصرت بحقه فلم تظهر يوما أي اشتياق له بعد عودته من العمل ولو بابتسامه رقيقه او أسمعته كلمات يشتاق إليها واهتمت فقط بترتيب وتنظيف المنزل وإعداد الطعام ظنا منها أنها أشبعت رغباته.
صرخت في وجهه واتهمته بأنه السبب في البرود والركود الذي قيد حياتهما العاطفية مما ادي الي ان يسود الصمت الطويل بينهما.
دق الملاك علي المنصه بمطرقته بأمرهما بالصمت والاستماع قائلابحِبُّ :
إن لم يهتم الزوج بزوجته عاطفيا فعلى الزوجة أن تصر على محاربة بخل زوجها العاطفي بحرصها على التزين وتجنب العبوس دون داع .
انقشع الحلم بسرعه وباتت تفكر في الحلم التالي .
وقفت هذه المرة اشد قوه وثبات واتهمته بأنه ذو عيون زائغة ينظر إلى أي امرأة تلمحها عينه رغم انها قد أخبرته بضيقها من تلك النظرات وأعلنت أنه لا شيء ينغص الأحاسيس الداخلية كما تفعل شكوى امرأة مخلصة من نظرات زوجها إلى غيرها وطعنه لمشاعرها.
أنكر الزوج التهم الموجهة إليه وأخبر الملاك بأن ذلك نوع من الفضول وأن الرجل بطبعه شخصية ملولة خاصة في النصف الثاني من عمره بعد أن يكون قد حقق ذاته واستقرت حياته مما يجعله يقيم حياته الزوجية خاصة إذا كانت زوجته كثيرة الشكوى والخلافات.
كادت المرأة أن تهجَّم عليه بعد أن اتهمها بكثرة الشكوى رغم كل ما عانته منه فاوقفها الملاك قبل ان تقفز داخل القفص الحديدي وقال بهدوء إن سعادة البيت واستقراره تنبع من المرأة بأفعالها وردود أفعالها والمرأة وحدها تستطيع أن تجعل زوجها يستغني عن كل نساء العالم أو تدفعه للنظر إلى أخرى فالرجل يحتاج من المرأة عدة أدوار، أولها دور الزوجة، والحبيبة والصديقة ثم الأم هذه الأدوار إذا إجادتها فلن يرى زوجها غيرها في الدنيا.
استيقظت المرأة سريعا من ذلك الحلم بعد ان شعرت أن الملاك قد أخذ جانب زوجها تلك المره وقالت لنفسها :
ماذا انتظر من ملاك لعله هو الآخر يسترق النظرات لحور العين!
كان الحلم الثالث وكأنه مباراه بين خصمين عنيدين بعد أن اتهمته بالتسلط وكبت احلامها وتجاهل طموحها واعتبارها من الكماليات في حياته ماعليها سوى أن تقوم بأعباء المنزل وواجبات الزوجية.
وقف زوجها مزهوا بنفسه وقال :
ان الله وهب الرجل سلاح يتمثل في قوته وحكمته والتريث لمواجهة سلوك حواء المعروفة بأنها عاطفية في أغلب أحكامها وقراراتها وهو سبب قوامة الرجل على المرأة.
قالت الزوجة بغضب:
أن سلاح الرجل الحقيقي هو الصراخ فالرجل عموما يستغل ضعف المرأة وإن كانت ذكية ومثقفة بنبرة الصوت القوية لفرض وجهة نظره حتى لو كانت خاطئة.
استشعر الملاك صعوبه الامر فهو يعلم أن للرجل قوامة علي المرأة بما أنفق إلا أنه نبه الزوج بأن القوامة معناها القيام علي خدمة الزوجه والأولاد وليس الاستئثار بالقرارات كما يدعي وهمس للزوجة بأن زوجها طيب القلب لكنه ينفرد بالرأي وتعصبه ناتج من تربيته فانعكس علي معاملته معها وقال بهدوء كان يجب عليك أن تتعاملي معه بحسب الموقف وأن تستشعري ميوله واهتماماته وتحاولي مشاركته بها لفتح مجال للحوار علي أن لا تتنازلي كثيرا فالتنازلات تؤدي إلى الامتهان.
ثم نظر إليهما مؤنبا كان عليكما أن تعلموا إنكما مراقبان من الأبناء فإذا كانت الحياة بينكما تسودها المشكلات وعدم الاحترام فستنعكس على سلوكياتهم وعلاقاتهم بالآخرين.
جافاها النوم بعدها لأيام بعد أن أحست بخطورة قرارها فاضطرت الى اخذ دواء منوم يساعدها علي النوم إلا أنها لم تجد في حلمها زوجها والملاك فأخذت تبحث عنهما دون جدوى .
لاحظ ابنائها نومها المتواصل وإصرارها علي البقاء في سريرها أطول مدة ممكنة، اقترب منها حفيدها والذي تكن له محبة خاصة فسمته علي اسم زوجها ونادته بحنان وإذا به يخطو إليها بنفس خطوات زوجها عاقد الحاجبين ونظراته حاده تكاد تحرقها فاستغربت من الشبه العجيب لجده.
أمسكها بكلتا يديه فجأة وصدر منه صوت رجل مسن يدعوها للاستماع له جيدا ،عقدت الدهشة لسانها وأنصتت إليه فإذا به يقول:
انها اخر فرصه لي لابد أن تحسمي أمرك فالمحكمه في انتظار قرارك .
قالت معتذرة :
لكنني أتيت ولم اجد احدا هناك !
قال وهو يستعطفها لقد كنت ليلتها تحت تاثير المنوم ولابد من الإدلاء بقولك وانت في كامل وعيك !
آفاق حفيدها في لحظة وكأنه كان تحت تأثير روح هائمه وانطلق يعدو خارج الغرفة لايدري ماذا حدث له.
غادر الجميع المنزل وعادت إلى وحدتها وأطفأت الأنوار و جلست في سريرها تستدعي النوم واذا المحكمة قد امتلأت قاعتها بالعديد من أرواح النساء والرجال وكأنهم وجدوا في تلك المحاكمة متنفسا لما عانوه في حياتهم .
اخذت أرواح النساء تهمهم وتطالبها ان تتكلم عن قدرة الرجال علي الكذب والتي دمرت العديد من العلاقات الزوجية لتصيح الأخريات لا تنسي أن تحكي عن محاولاتهم للنيل منا و اغاظتهم لنا بسخريتهم من عواطفنا الجياشة واطلاقهم علينا الألقاب والأسماء التي تحط من كرامتنا.
لم تعلق الزوجة وبادرت بقولها :
مهما يكن فهو زوجي و سألقاه قريبا ولقد سامحته من قلبي عسى ان يدخل الجنة ويأخذني معه .
ارتسمت البسمة علي وجه الملاك وانارته وقال للملاك بجواره:
إنها طبيعة المرأة ولن تتغير فعاطفتها تغطي دائما علي عقلها فهي لاتعلم ان الدرجة الكبيرة في اختبارها في الدنيا مختلفه عن اختبار زوجها!
اهداء الي روح استاذي ومعلمي السيد محمد المرادني يوم ان كان هناك معلما ليس للعلم فقط انما للاخلاق وحسن المعامله
من روايه اوراق في درج مغلق
المرادني
نقر الاستاذ علي طاولة المكتب وهو يردد بفرح منغما كلماته فيشيع البسمة في قلوب الاطفال الصغيرة فيرددون من خلفه دون أن يعوا المعني
(العلم غيره)
كان يخص أحدهم دونا عن زملائه في المرحلة الابتدائية بالرعاية والاهتمام متأملا فيه الذكاء والفطنة فيقول له وهو يقرص اذنه بخفه:
لاتشعر بالغيرة الا من تفوق عليك بعلمه فأحرص علي العلم حرصك علي حياتك.
ظلت كلماته نبراسا يضيء له طريق العلم الذي اجتازه بنجاح فحصل علي أعلى الدرجات طوال مشواره الدراسي حتى تخرج من كلية الطب بتفوق وهو يحمل بداخله شعور الفضل والتقدير لأستاذه الذي لم يراه بعدها الا مره واحده من خلال نافذة الترام بالصدفه فصاح بطفوليه شديده :
استاذ محمد .
نظر الأستاذ خلفه مره ومرات فحاول أن يلفت انتباهه وهو يدفع الناس من حوله حتى خرج من باب الترام المكتظ بالركاب ، لم يتمكن من العثور عليه فأخذ في العوده بنفس الاتجاه الذي رآه فيه الا انه كان قد ذاب وسط الزحام.
مرت سنوات عديدة تبخرت فيها صور الطفوله من خيال الطبيب حتى فوجئ يوما بأستاذه بغرفة الطوارئ فبدي رجلا كهلا مرتديا بيجامة مقلمه من الكستور يسير بصعوبة متكئا علي عصاه وعلامات التشوش ظاهرة بشكل واضح علي وجهه ونظراته الزائغة تتفحص الغرفة يمنة ويسرى بخوف.
أمسك الطبيب يده بحنان بالغ وأمر له بكوب من الليمون وأجلسه أمامه وهو يسنده من ظهره حتى جلس مطمئنا وقد بدت عليه علامات الهدوء والارتياح.
اقترب الابن من الطبيب وهمس لقد وجدناه أخيرا بعد ان غافلنا وخرج الى الشارع لايام عدة هائما لايدري كيف يعود بعد أن فقد ذاكرته.
احتضن الاستاذ عصاته بكلتا يديه عصاه من منتصفها يدق بها ارضيه الغرفه فتصدر صوتا منتظما كأنها دقات منبه ربط علي قنبلة موشكه علي الانفجار.
قال الابن لقد أصبح والدي عصبيا مكتئبا في الفترة الأخيرة بعد أن ضعف بصره و أصابه الصمم فبات منعزلا وحيده يقضي كل وقته بغرفته ملولا بعد ان تشابهت الأيام عليه وماتت الفرحه بداخله بوفاة امي بالمرض اللعين من شهور قليلة.
قدم الطبيب إليه نفسه وهو ينظر في عينيه أملا ان يتذكره إلا أنه ظل يدق الأرض بعصاته وكأنه في عالم خاص منفصل تماماً عن الوجود.
اقترب الطبيب منه وجلس بجانبه وقال بصوت عالي وهو يعدل له سلك السماعه البلاستيكية علي اذنه اليمني الذي تحرك من مكانه :
اذا لم يمكنك التكلم هل بالإمكان أن تكتب اسمك أو عنوانك!
أمسك الاستاذ القلم بيد مرتعشة وثبت مقبض نظارته وكتب بخط مرتعش :
محمد المرادني
توقف بعدها عن الكتابة ونظر عاليا لسقف الغرفة وكأنه يسترجع ذاكرته وزم علي شفتيه وهمس بصوت غير مسموع :
أصبحت أعد الثواني يائسا لااجد ما افعله سوى الانتظار بما تأتي به اللحظه القادمه.
نقر الطبيب نقرات منغمة وأخذ يردد بصوت ملؤه الحب وهو يتذكر الاوقات الحلوه مع أستاذه :
العلم غيره.
اندهش الابن من كلمه الطبيب وقال بفرح انها جملته المفضلة و التي رباني عليها فاصبحت وبفضله ضابط شرطة مهم مما ساعدني كثيرا علي العثور عليه بعد ان فقدنا أثره لأيام.
سأله الطبيب :
هل يمكنك اخباري بأي موقف حدث له قبل مغادرته المنزل .
قال الابن :
لقد تذكرت شيئا لا أدري أهميته لك فكان يوم اختفاء والدي هو نفس يوم ذكرى عيد زواجه من والدتي رحمها الله!
كان الطبيب ينظر لأستاذه من طرف جانبي ليرى تأثير الكلام عليه فلم يجد أي علامة تدل على فهمه الموقف لكنه سمعه يهمس لنفسه العلم غيره وكأنما وصلته الرساله فأخبره الطبيب بسرعه بأسمه وأخذ يذكره بكل ما يمكن ان يعيد اليه ذاكرته .
ارتسمت ابتسامه خفيفه علي محياه وقرص الطبيب في أذنه بخفه قائلا :
ماشاء الله لقد أصبحت طبيبا.
كانت تلك هي البداية انفتح بعدها الحوار بشكل هادئ فاشتكي للطبيب من إحساسه بالضعف والهوان لما آلت اليه صحته وأخذ يعيد كلمات دلت علي ضجره من الحياة بعد أن تمردت عليه كهولته وأصبح يتمنى الموت كل ليلة بعد ان فقد زوجته التي عانت من آلام مبرحة بسبب المرض اللعين فوقف مستسلما لقضاء الله الي أن وافتها المنية.
سأله الطبيب :
إذن لماذا غادرت المنزل.
سكت قليلا وقال :
لقد أصابني الأرق تلك الليلة فبت لااقدر علي النوم ،كنت استمع لصوت زوجتي يهمس لي أريدك معي لقد افتقدتك كثيرا ، ساورني القلق بشدة ووسوس لي الشيطان أن ألقي بنفسي من البلكونه فتحتها وأنا أدرك باستحالة ذلك الأمر لإيماني الشديد بالله الا ان همسها انقلب الي صراخ يدعوني للحاق بها فوضعت كلتا يدي علي أذني وأحسست بالانقباض في صدري ففتحت باب المنزل وخرجت بملابس النوم لاجد نفسي هائما لااعرف طريق عودتي للمنزل .
سئل الابن عن حالة والده وأفضل طرق العلاج بعد ان لاحظ فقده شهيته واعتقاده أن معدته مغلقة وكثيراً ما يفكر بأنه مرض خبيث.
وجه الطبيب كلامه مباشرة للابن وقال :
إن معرفة أن الوالد مريض بالاكتئاب سيُغّير مسار أمور كثيرة فكثير من الشكوي الجسدية يُمكن تفسيرها بالحالة النفسية بينما الجهل في هذه الأعراض قد يقود إلى إجراء كثير من الفحوصات دون داعٍ .
وارى ان المسنين ليسوا بحاجة لرعاية طبية وإنما كل ما يحتاجون إليه هو الرعاية العادية والقيام على خدمتهم والاعتناء بهم.
قال الابن باستغراب :
كنت اعتقد انه مصاب بالزهايمر!
شرح له الطبيب ببساطة قائلا:
رغم ان والدك يشكو من فقدان الذاكره الا أن تصرفاته لا تتماشى مع تدهور الشخصية كما يحدث في مرض الألزهايمر فقد بقي والدك هادئ الأعصاب ولكن بدا عليه انه مُكتئب.
كما أن مريض الخرف المصاحب بالاكتئاب تكون الأعراض مفاجئة ويستطيع الأهل تحديد متى بدأ التغيير في السلوك كما حدث مع والدك في ذكرى زواجه من والدتك وهذا عكس الزهايمر الذي تكون بدايته غير معروفة ولا يتنبه الأهل إلا بعد فترة طويلة من بداية المرض.
استند الطبيب علي مكتب بجواره ليكتب تقريره الطبي وأوصي بحاجته إلى جلسات كهربائية .
قال الابن بلهفه :
الا يمكن ان تعطيه بعض الأدوية بدلا من تلك الجلسات فأنا أشعر بالقلق بمجرد ذكر اسمها.
قال الطبيب وهو يربت علي كتفه بابوه:
أن الجلسات الكهربائية أفضل من العلاج الدوائي للوضع الحالي فهي أسرع الطرق لعلاج الاكتئاب لكبار السن وخاصة انه لا يأكل وقد فقد كثير من وزنه مما يعرضه لمضاعفات صحية نحن في غني عنها.
حضر الابن مع أصدقائه مبكرا فبدت المستشفى وكأنها ثكنة عسكرية الا انهم فوجئوا بان الجلسة قد انتهت وعاد الوالد من غرفه الافاقه لغرفته
ذهب الطبيب لغرفة استاذه للاطمئنان عليه فوجده يتحدث مع ابنه الذي أمسك بيده يطبطب عليها
قال الابن :
لم نكن نعلم ان الجلسه تنتهي بهذه السرعة
فقال الطبيب :
ان الجلسه لا تتعدى دقائق وأخبر الابن أن الجلسة ستكون يوما بعد يوم لمدة ثلاثة مرات في الأسبوع مع متابعه الحاله.
انتهت أول ثلاث جلسات وكانت الأمور تسير من احسن الي احسن وقد تورد لون وجه الأستاذ وزادت شهيته للطعام
وما ان قارب علي الخروج من المستشفى معافى هب من سريره عند رؤيته للطبيب وأمسك يده وقال بود :
أغمض عينيك اريك شيئا يسرك
مد الطبيب يده وهو يتسلم منه شهادته التي احتفظ بها أستاذه علي مدي السنين وقد كتب في اسفل الورقه :
تلميذي النجيب
اتمني من الله ان يجمعني بك يوما واراك في اعلى المراكز.
دعواتي لك بالتوفيق والنجاح.
لثم الطبيب يد أستاذه واحتضنه بكل ود مهنئا إياه بالسلامه وتقدمه يحمل شنطته للخارج بينما استند الأستاذ بيده علي يد ابنه بعد ان ترك عصاه فلم يكن له بها حاجة بعد عودته للحياه .
حاله نفسيه خاصه جدا
ارجو ان تنال اعجاب من يقرؤها
توريت
استرخت المريضة تماما و أرجعت رأسها علي مسند الكرسي واغمضت عينيها وأخذت نفسا عميقا كما طلب منها طبيبها الذي شجعها بعد ان احس بالراحه تسري في كيانها أن تبدأ في سرد حكايتها.
قالت وكأنها تلقي حمل ثقيل أثقل كاهلها لسنوات طوال:
لازلت اتذكر يوم زفافي بكل تفاصيله فقد كان كل شيء مختلفا تلك الليلة !
كنت سعيدة جدا يومها..سعيدة لدرجة لم اعهدها يوما..كنت في قمة النشوة والسعادة تملأ كل ثنايا قلبي .
دخلت الى قاعة الفرح على نغمات شجية بترديد اسماء الله الحسني وسط الزغاريد ورائحه البخور تضفي جوا من الروحانية و الهدوء.
كدت أذوب خجلا واعين الحضور تتأملني ..أحسست بأن الممر يزداد طولا كلما مشيت فيه..زاد ارتباكي وانا اري الشاشه التي توسطت القاعه تظهر كل تحركاتي فكاد قلبي يطير من بين اضلعي من التوتر والقلق.
فاتت فقرات الحفل بسرعة ..قاومت دموعي خلالها باستماتة خصوصا حين تم عرض الفيلم الذي تم إعداده عن حياتي !
انتهى الحفل سريعا وخرجنا من القاعة وسط دموع الأهل والأقارب انطلقت بنا السيارة وأمسك زوجي بيدي طوال الطريق وانا ارتجف توترا.
حانت اللحظة الحاسمة واقترب مني زوجي يلاطفني و تحسسني بشوق ورغبة جارفة وإذا بي اسعل بشده وبعدها وبشكل مفاجئ تفوهت بألفاظ نابية يندى لها الجبين لم استطع التحكم فيها بعد أن اندفعت من فمي كطلقات الرصاص .
أخذت عيني بالغمز بشكل متكرر وتحرك جانب وجهي الايمن لااراديا بطريقة بدت سخيفة ومخيفة جعلت زوجي يظن أن روح شريرة تلبستني خاصة بعد أن بدأت خمش وجهه بأظافري وانا اصدر صوتا اقرب للنباح.
أخذ يتلو المعوذتين وبعض آيات من القرآن الكريم في أذني ويستعيذ بالله من الشيطان الى ان هدأت تماما .
ما ان علمت والدته بذلك الأمر صباح اليوم التالي حتى أخذت في حثه علي طلاقي واتهمت اهلي بالخداع .
بدأت بعدها رحلة البحث عن المشعوذين والطب الشعبي الى ان اتيت لك اليوم بعد ان قاربت علي الجنون وخاصه ان زوجي هددني بالطلاق بعد أن ساءت حالتي واخذت تتكرر بشكل يومي.
سألها الطبيب عن البدايه فردت منكسره الخاطر:
لاحظت مدرستي حركاتي الااراديه والتي كنت اتفنن في إخفائها عن الآعيُنّ بتغيير الحركه لتبدو مقبولة فما ان ترتفع يداي بشكل لاارادي حتي اضع يدي علي شعري وكأنني اصلح من تسريحتي.
عاود الطبيب سؤالها ليستفسر أكثر عن طفولتها مع المرض:
هل تتذكرين اي شئ اثناء نوبة تشنجاتك .
فالت بثقه :
اتذكر كل لحظه واخذت تمثل له حركاتها وتشنجاتها.
سألها مرة أخرى هل عٓضّتِ لسانك أثناء النوبة فهزت رأسها بالنفي فقال وهو يبتعد بنظره عنها حتي لايسبب اي احراج لها:
هل فقدتي يوما السيطرة على مثانتك البولية فتٓبٓوّلتيِ دون شعور أثناء إحدى النوبات.
نظرت مستغربه وهي تردد :
لا لم يحدث لي أي من تلك الأعراض فقط كنت أعاني من حدوث حركات لا إرادية معيبة في أحد أجزاء جسمي وبشكل متكرر وغير طبيعي وخاصة في وجهي وعيناي ورقبتي وكتفي وترديد كلام بذيء فاحش سبب لي الحرج وجعلني محط سخرية من الآخرين.
صمتت قليلا وقالت كان سلوكي عدوانيا في طفولتي ضد الآخرين دون أي مبرر أو سبب واضح وكان اهلي مستغربين جدا لهذا الأمر وفي البداية أعتقد أهلي أنه أمر عادي سينتهي مع الايام الا ان الأمور تفاقمت فحاول أبي تأديبي عن طريق العقاب ولكنه وجد ان الأمر يزداد سوءاً..!!
عرضني أبي على أخصائي طب أعصاب شًٓخِّصَني علي انني مريضه بالصرع داومت علي العلاج لسنوات .
انتهت المشكله تماما بعدها ونسيتها مع الوقت الي ان عاودتني يوم الزفاف.
نظر الطبيب في عينيها وقال بثبات :
استعدي للمفاجأة فليس لديك صرع إنما هو غالبا نوبة صرعية كاذبة تسمى متلازمة توريت.
أعادت المريضة الكلمة بشكل اضحك الطبيب عندما قالت تربتاتيت أو صرع ماالفرق !
قال الطبيب وهو يؤكد علي تشخيصه :
التشخيص الصحيح للمرض منذ بدايته يعفي الطفل من التعامل معه علي أنه سيئ الخلق يحتاج للتربية والعقاب.
كادت المريضة أن تطير فرحا وهي تردد إذن لست مريضة بالصرع ثم عادت لحزنها مرة اخرى قائله:
وماذا عن تلك النوبات؟
هز الطبيب رأسه وشرح حالتها قائلا:
هناك صعوبة في التمييز بين النوبات الصرعية والنوبات الكاذبة لا تكتشف إلا من خلال طبيعة وأعراض النوبة
فالنوبات الصرعية تنتج عن تغيير في كيفية إرسال خلايا الدماغ للإشارات الكهربائية من خلية لأخرى.
أخرج الطبيب نتيجه رسم المخ الكهربائي والاشعه المقطعيه ووضعها أمامها ليثبت صحة تشخيصه قائلا:
هاهي الفحوصات تثبت سلامتك من مرض الصرع .
سألته المريضة بحيرة ولماذا إذن تأتيني تلك النوبات التي نغصت حياتي ودمرت مستقبلي.
قال الطبيب وهو يحاول أن يبسط الأمر:
انها تنشأ غالبا نتيجة الضغوطات النفسية أو الإرهاق البدني والذهني من خلال رغبة بوعي أو بدون وعي للاستئثار بعناية واهتمام أكبر.
وصف الطبيب دواء مضاد للذهان بجرعات بسيطة ونصحها بالحضور لجلسات نفسية علي أن تكون جلسة عائلية لشرح حالتها للجميع وإزالة وصمة الصرع التي رافقتها حياتها وسببت لها الكثير من الإزعاج.
جلست العائله ترقب لما ستسفر عنه الجلسة وتمنت المريضه ان ينقذها الطبيب من جلاديها بإزالة الغطاء الأسود من علي وجهها وفك الحبل الغليظ الذي احكموه حول رقبتها .
كانت كلمات الطبيب الهادئة تبعث الراحة والهدوء وتزيح جبال من الأفكار الخاطئة التي تراكمت علي مدى السنين وتضيء شمعة الامل في نفوسهم.
ما إن انتهت الجلسة حتى همس الطبيب في اذنها :
احترسي من أعدائك !
نظرت اليه مستفهمة بعد أن أدهشتها الكلمة فقال بسرعه :
قلة السوائل والنوم أو زيادة الإجهاد الذهني والبدني.
غمزت بعينها تؤكد حرصها علي الاهتمام بنفسها والعمل بنصائحه الا ان الغمزه تلك المرة كانت بإرادتها.
حاله فرح من احدي القصص بروايتي ( اوراق في درج مغلق)
فرح
دخلت المريضة علي استحياء تتعثر في خطواتها فقد كانت تعلم أن الطبيب كان يوما يشيد بجمالها وحسن ذوقها ، نظرت الي نفسها لتجد خطوط العمر وقد كست وجهها الحزين وانطفأ بريق عينيها واخذت تلوم نفسها لما وصلت اليه من حال .
اخذ الطبيب يدقق في ملامحها فتذكرها قائلا بدهشه :
مدام فرح !
بات يتنقل بعينيه علي تقاطيع وجهها وكأنه يتحسر علي زوال شبابها بعد ان غادرت البسمة شفتيها وأهملت نفسها فلم تهتم بزينتها حتى انها لم ترتدي اي قطعه ذهبيه علي اذنها او جيدها علي غير عادتها كما بدت ملابسها غير متناسقة حتى حذائها بهت لونه وذاب نعله وكأنها ودعت مباهج الحياة بلا عوده.
حاولت ان تبتعد ببصرها عنه ونظرت لارضيه الغرفه بخجل وهي تعتذر عن حالها ، لم يلق الطبيب بالا لاعتذارها وشجعها بكلمات بسيطه حاول ان يبث فيها الامل الا انها اخذت في البكاء بحرقة وصاحت:
لقد كتب علي أن أعيش في جحيم لا مخرج منه سوى الموت !
قال الطبيب وكأنه يذكرها بنتيجة افكارها اليائسة :
أذن ستعبرين من الجحيم الدنيوي الي الجحيم الابدي.
قالت بزهق لم اعد اهتم باي شئ لقد حولني زوجي المستفز الي انسانه بلا شعور بعد أن حطم كبريائي
واخذ يتهمني بالجهل والغباء امام اصدقائه دون مراعاه لشعوري حتي صدقته واصبحت من بعدها مشوشه التركيز كثيره النسيان مما جعله يزداد في إهانته لي وكأنه يتلذذ بتعذيبي وإذلالي وَمِمَّا زاد الطين بله ان اولادي أصبحوا يعيدون كلامه ويقلدون حركاته المزريه ونسوا انني امهم التي سهرت علي رعايتهم وأفنت حياتها في خدمتهم.
قال الطبيب محاولا ان يحثها علي طرح كل مايشغل بالها :
الا يوجد احدا من الاهل يستطيع ان يساعدك !
انهمرت دموعها ساخنة علي وجنتيها تبكي اسرتها المحاصرة في أتون الحرب بسوريا وقالت:
لم يتبق من أسرتي سوي أمي وأختي الصغيره فقد مات والدي وهاجر باقي افراد العائلة كل منهم في مكان فتفرقنا بعد ان كنا كحبات اللؤلؤ يجمعنا خيط واحد.
اعجب الطبيب تشبيهها وقال :
الا تتصلي بوالدتك ولو للاطمئنان.
قالت ان خطوط الاتصالات صعبه هذه الايام والمراقبة مستمره علي كل المحادثات ولااري سوي مشاهد القتل والدمار في نشرات الاخبار مما يزيد من خوفي وقلقي.
احس الطبيب بتوترها وسألها :
هل هناك اي امكانية حضور زوجك في الزياره القادمه !
ابتسمت ابتسامه هازئه وهي تقول لقد حاولت معه اكثر من مره الا انه يتعالى بكبرياء ويتهم الاطباء النفسيين انهم سبب جنون مرضاهم وإدمانهم علي الادويه.
سألها الطبيب مباشرة هل تري اي نقاط إيجابية في زوجك .
صمتت دقائق وكأنها تبحث في ذاكرتها فقالت انه علي درجه كبيره من الثقافه ويحمل شهادة الدكتوراه في الاقتصاد ويتكفل بجميع طلباتنا فهو يملك من المال الكثير يضع معظمها في العقارات بأنحاء البلاد الا انه اصبح بخيلا يتهمني بمصاريفي الشخصية الباهظه التي تثقل كاهله وأخرج اولادنا من المدارس الأجنبية لزيادة الأعباء والتكاليف وعندما أشرت عليه ببيع إحدى الوحدات السكنية التي يملكها صرخ قائلا :
ماذا تفهمين أنت في العقارات ان ثمنها يتضاعف يوما بعد يوم
فاقول يائسه:
اننا لانعيش سوي مره واحده.
قال الطبيب وهو يبتسم لقد طلبت ان تتذكري نقاطه الايجابية واذا بك تلتقي وتعودي الي نقاطه السلبية ،ماذا لو سألتك عن نفسك!
كنت جميلة القوام عيناي خضراوتين وشعري الذهبي يتدلي علي كتفي خطواتي رشيقة تدير رؤوس من يراني،تذكرها الطبيب علي تلك الصوره سرح بخياله ليعود إلى الماضي ليراها مستلقيه علي رمال الشاطئ تنعكس اشعه الشمس على جسدها المرمري، افاق مرة واحدة عندما تنبه اليها تكمل معرفتها بزوجها وسمعها تقول كنت صغيره السن قليله الخبره وتزوجت مبكرا دون الالتفات الي مستقبلي بعد ان ضغط اهلي علي لعدم مواصلة الكلية فقد كنت ارغب في الالتحاق بكلية الآداب الا وانه لظروف حياتنا المادية فضلت والدتي الزواج به وخاصة انه ثري واحست بالاطمئنان علي مستقبلي معه .
قال الطبيب بحذر:
هل وصلت خلافاتكما يوما إلى الانفصال!
هزت رأسها بنعم وهي تتذكر يوم ان زادت خلافاتهما فصممت علي الذهاب لاهلها بالشام رغم المخاطر الا انه وافق سريعا وكانه يتخلص منها وعندما ذهبت الي هناك احست بالملل والخوف فقد كان صوت طلقات المدافع يزيد من توترها وفكرت في العودة الا انها احست بالإهانة لعدم سؤاله عني طوال غيابها وكانه يعلم انها ستعود صاغره ذليله وخاصه بعد ان دفعتها امي دفعا للعودة واحست وكانها اصبحت عبئا علي الجميع فلم يكن لديها اي مورد مالي او شهاده علميه تحصل بها علي وظيفه مناسبه وعادت اخيرا الي منزلها وبقي زوجها علي عناده وتجاهله حتي علاقتهما الحميمية اصبحت لاتطيقها وعادت الي الكآبة مره اخري والتي عانت منها بعد ولادتها ابنها الاول.
زادت عصبيتها واصبحت لاتطيق عشرته وتعليقاته السخيفه المهينه وبالأمس صرخت في وجهه واتهمته بانه ليس رجلا فدفعها بيده وألقاها أرضا واخذ يضربها بكفه علي وجهها لاول مرة فاخذت تكسر كل ماتقع يدها عليه وذهبت بنفسها الي العياده دون ان تخطر زوجها خوفا من رفضه.
فكر الطبيب قليلا كي يجد مايناسب الموقف الحالي من كلمات فقال متسائلا :
مدام فرح ، كم عدد اطارات السياره !
قالت بتسرع اربعه طبعا .
قال ضاحكا وهل نسيت الخامسة بشنطة السيارة !
قالت عذرا لم افكر فيها فما المقصود !
قال لها بحكمه السنين ان الاطار الاول يمثل الانسان نفسه والاهتمام بصحته وحياته النفسية والإطار الثاني الزوج او الزوجه والاولاد اما الثالث فهو للوالدين والاصدقاء المقربين اما الرابع فهو للمجتمع بشكل عام
فقالت وماذا عن الإطار الإضافي فقال بصوت يملؤه الخشوع هو علاقتنا بالله فنحن نعلم أنه معنا دائما ولهذا لا نهتم معظم الوقت بالاطمئنان علي ذلك الاطار الا لو فقدنا احد الاطارات الاربعة او اضطرنا للسفر لمسافة طويلة .
وعليه فيجب ان تهتمي بتوازن الأربع إطارات علي ان تبقي علاقتك بالله ثابتة علي الدوام
غير الطبيب دفة الحديث وسألها :
ماهي اهتماماتك !
ردت بسرعه وكأنها تنتظر السؤال الطبخ والقراءة.
باغتها بسؤاله عن احب الشخصيات الكرتونية لديها !فقالت وهي تبتسم دونالد دك عندما يثرثر.
طلب منها الطبيب ان تعمل علي نفسها وتبدأ في دراسه اللغه الاجنبيه وان تتخيل زوجها دونالد دك عندما يحتد عليها ويثرثر بكلمات نابية أو تتخيل نفسها في الأماكن التي تحبها مع والدتها ونصحها بالبدء بعمل جلسات الاسترخاء والتنفس المنظم ،ثم أشار عليها بالهدوء في التعامل مع اولادها وقضاء وقت معهم خارج المنزل ومصاحبتهم في ألعابهم الرياضية وإعطاء الوقت الكافي لزينتها.
اتصلت فرح بطبيبها اليوم التالي وهي خائفه تخشى ان يعلم زوجها بزيارتها دون إذنه لعياده الطب النفسي فطمئنها بسريه الجلسة واعاد عليها تعليماته بأن تهتم بنفسها وتركز علي الإطار الأول.
نفذت فرح التعليمات بحذافيرها واصبحت انسانه اخري حتي كاد لا يعرفها عندما اتت لمعاودته بعد شهور ، كان عطرها يفوح وتزينت بقرط ذهبي وعقد من اللؤلؤ وارتدت فستانا تتماشى ألوانه مع شنطة يدها وحذائها فباتت وكأنها إحدى نجمات السينما ، قدمت الي الطبيب برطمان من مربي المشمش ملفوفا بشريط احمر وقد ألصقت عليه ورقه كتب عليها مربي فرح وقالت بفخر لقد بدأت مشروعي ببيع المربي والحلويات واصبح لدي القدرة علي شراء مااحتاجه لنفسي .
نظرت اليه شاكره وهمست لقد سيطرت علي عصبيتي وتغيرت معاملة زوجي بشكل ملحوظ وهو يفتخر بي أمام الاصدقاء فعادت لي ثقتي واقترب مني الاولادي فخورون بي بعد ان تعلمت في شهور قليلة اللغه الانجليزيه واخرجت من شنطة يدها إحدى الروايات الاجنبيه وقالت اني احتفظ بها لقراءتها حتي لايضيع الوقت هباء بعد أن علمت قيمته.
اتصلت موظفة الاستقبال بالطبيب تخبره بحضور زوجها لأول مرة وخشيت ان يتهجم عليه بعد أن رأت نظرات عينه الحاده الا انه ان دخل غرفه الطبيب بأدب جم وقال له بتودد :
ارجوك أعطني من نفس الدواء الذي أعطيته لزوجتي .
ضحك الطبيب قائلا :
إنها لم تتناول اي دواء، فقط عملت علي تغيير افكارها فتغيرت مشاعرها للافضل وتحسنت سلوكياتها وقلت عصبيتها.
شكره وقام من مكانه ومد يده بالسلام علي وعد ان يلتقيه في جلسة اخري مع زوجته.
رنين
أخذ الطبيب يدقق في ملامح مريضته فتذكرها طفله جميله تدور بخطوات رشيقة كالفراشة علي نغمات عزفه على البيانو في منزل والدها عند دعوته له علي العشاء تشب علي اطراف اصابعها تستعرض مواهبها بفن الباليه وسط التصفيق وكلمات الاعجاب من الجميع.
نظر اليها مره اخري وهي تخطو بخطوات مضطربة تكاد أن تنكفئ علي وجهها فتسندها الممرضة وتمسك يدها المرتعشة بقوة فتسير معها المسكينه بعيون منكسرة .
تأسف الطبيب الي ما آلت اليه وتعجب وتساءل كيف انتهت لهذا الحال.
لم يتمكن الطبيب أن يعلم شيئا سوى انها حاله ادمان فقد ظلت صامتة طوال الجلسة يتشنج جسدها الرقيق بين الفينه والفينه فتقوم وتجلس مره ومرات بعد أن فقدت السيطرة على الثبات فانهي الجلسة سريعا ووصف بعض الأدوية المهدئة وطلب من ممرضته اصطحابها إلى القسم الداخلي .
في اليوم التالي كانت أحسن حالا إلا أن نظراتها بقيت زائغة و تفكيرها مشوش فبدأ بسؤالها كي يحفز ذاكرتها :
هل تتذكرين كيف حضرت بالامس لوحدة الطوارئ ومن كان معك!
هزت رأسها بالنفي فقال
هل تعلمين أين انت الان ومن أنا وماهو اليوم في الأسبوع؟
ردت وهي تنظر للأرض بخجل :
أنت الطبيب صديق والدي وأنا في المستشفى لكن لا اتذكر اليوم فقد تشابهت علي وأصبحت مكرره لا معنى لها منذ سنوات طويلة .
ارجعت رأسها للخلف وكأنها تستعيد ذكرياتها عن الماضي وقالت هامسه أنه أبي ولا أحد غيره ! ثم صمتت تماماً خشية ان تسترسل في حديثها .
قال الطبيب بعد ان امسك الخيط:
كيف ترين أباك!
قالت بعصبيه واضحه:
أنه قاسي وظالم وهو سبب كل مشاكلي فقد أهملني بعد ان رزقه الله بولد بعد طول عناء وانتظار فولاه كل اهتمامه وبعد ان كنت الفتاه المدللة اصبحت وكأن لاوجود لي .
قال الطبيب محاولا سبر أغوار نفسها:
وكيف ترين امك إذن!
قالت وهي تتأسف علي حال والدتها أنها مسكينة لاتقدر علي شئ حتي أنها لم تستطع معارضته عندما رفض ذهابي دروس الباليه بعد أن بدت علي مظاهر الانوثه ثم أخرجني بعدها من فريق السباحة بالمدرسة بحجة انني اصبحت فتنة للعين وشيئا فشيئا منعني من الخروج نهائيا من المنزل بعد أن عارضته يوما وتسللت الى معلمتي أرجوها إقناعه إلا أنها وجدته عنيدا قاسيا وتلفظ عليها بكلمات نابية فآثرت ان تنسحب من مواجهته .
قال الطبيب وهو يشعر بالحرج من تصرفات صديقه:
هل حاولت والدتك أن تثنيه عن قراره بعدم خروجك من المنزل.
سكتت قليلا وقالت لقد نصحتني ان أجاريه لحين هدوءه وانصرافه عني والبستني الحجاب دون ارادتي فكنت أغلق علي نفسي باب الغرفه واقف أمام المرأه لألف وسطي بالحجاب وأمارس هوايتي بالرقص علي نغمات صوت منشد ديني شجي وأضيف رقصات إيقاعية صوفية أدور في دوائر ابتهل لله أن ينجيني من هذا المنزل الكئيب.
انفتح باب غرفتي يوما بعنف بعد أن انغمست بكل جوارحي في رقصتي فاستشاط أبي غضبا وهو يراني أرقص علي تلاوة القرآن وأخذ يضربني بعنف بدون توقف حتى كلت يداه فنادي علي أخي الأصغر ليكمل ما بدأه ،احسست بالهوان وقله الحيلة بعد أن تركتني أمي بين أيديهم يتلاعبون بي وكأني كرة صغيرة يقذفونها من قدم لأخرى .
كان الطبيب يري في كلماتها تجني واضح علي والدها فقد كان يعرفه حق المعرفة إلا أنه لم يحاول معارضتها حتى لاتشعر باي انحياز فسألها بهدوء:
ساتقابل مع اهلك اليوم فماذا تعتقدين عن رأيهم فيك !
قالت دون تفكير أبي سيقول عني فاشلة وغبية وأمي ستوافق رأيه خوفا منه اما اخي فهو يكرهني ويتمنى ان اختفي من الحياة .
أوقف الطبيب الجلسة بعد ان طلب منها كتابه المواقف التي تدل على زعمها والحقائق التي تؤيدها والبدائل لأفكارها لكي يراجعها معها بوقت اخر
قابل الطبيب والدها بإحدى ممرات المستشفى فاقترب منه ونظراته حائره فسأله عن ابنته فلم يكن قد رآها منذ إحضارها لقسم الطوارئ فطمأنه وطلب منه الانتظار لما ستسفر عنه الايام القادمة فشكره بأدب قائلا:
انا مطمئن بوجودها تحت رعايتك فهي ابنتك أيضا وأخذ يذكره بتلك الليالي الماضيه وانهي حديثه بأن متاعبها سببها ذلك الشاب الصفيق الذي عارض زواجه منها!
كانت تلك الجملة هي طرف الخيط الذي بدأ منه جلسته التاليه فقال وهو يمد يده اليها بقلم ورسم دائرة بمنتصف الورقة وسألها ان تضع نسبة لكل إنسان في حياتها تسبب في ماوصلت اليه
بدأت في تقسيم الدائره ووضعت بداخلها الأسماء واخذت تمسح وتزيد لتمسح مرة أخرى لتضع إسما اخر الى ان توقفت وسلمت الورقه بخجل.
لاحظ أنها قد وضعت جزءا كبيرا من الدائرة بأسم كريم وبعض أسماء في دائرته ثم والدها وأخاها وجزء بسيط لأمها ومعلمتها فأشار مستفهما علي اسم كريم فقالت بحذر:
في احدي إجازاتنا بشرم الشيخ قابلت كريم بالهوتيل ،كنت أراه يعمل بهمة ونشاط وأعجبتني طريقة كلامه وتودده لي ووضعه ورده حمراء علي منضدتي فشجعته علي التحدث معي بعد ان علمت انه يعمل بفتره الصيف ليساعد أسرته الفقيره ويدخر مبلغا للسنه الدراسية فكنت أجزل له العطاء الا انه كان يأبي بكبرياء ،كنت انتهز فرصه ذهاب اهلي الي الشاطئ واتعلل بالإرهاق لابقي بغرفتي واتصل به ليأتي ونقضي وقتا ممتعا
.كانت مغازلته رقيقه في البداية الي ان تعودت عليه فاخذ يزيد بطلباته وانا مستسلمه كل الاستسلام لرغباته المحمومة حتي فقدت عذريتي دون ان نشعر بجرم ما فعلناه وعند اقتراب الاجازه من الانتهاء طمني بالزواج وعندما عارض والدي للفارق الاجتماعي اقنعني بالهروب معه دون موافقة أهلي ولم اجد في نفسي الشجاعة لمصارحتهم بما حدث وهربت معه لأعيش وسط أسرته الذين عاملوني في البداية كملكة متوجة في انتظار ان يرضخ ابي ويمدنا بالمال اللازم لرفع مستواهم الا انه وبمرور الايام وضح لهم عناد ابي فاخذوا في معاملتي كخادمة لتلبية طلباتهم وسب ابي بأقذع الالفاظ النابيه وإجباري علي ترديدها .
كان تدخين الحشيش شئ عادي في وسط أسرته تعلمته منهم واقنعني بعدها بشرب الكحول حتي تتزايد رغبته الي ان اتي يوما لاانساه بعد ان قدمني كهديه لأحد أصدقائه مقابل الحصول علي المخدر وعندما رفضت ربطني من قدمي ورفعني كالذبيحة وانهال علي مؤخرتي بضربات متلاحقة فبت من بعدها لا أقوي علي المعارضة وأصبحت كالجارية أؤتمر بأوامره والبي طلباته دون مناقشه.
بقيت علي هذه الحال شهورا وشهورا كانت حالتي الصحيه تتدهور يوما بعد يوم الي ان علمت والدتي بمكاني بعد تقصيها عني الي ان عثرت علي ورأت ما آلت اليه حياتي فعرضت عليه تركي مقابل مبلغ مادي كبير فساومها الي أن وافق علي طلاقي و أعادتني أمي إلى المنزل ذليله بائسة أعاني من تهكمات ابي واخي وسخريتهم مني.
كان المخدر قد تمكن مني فهربت من المنزل أهيم في الشوارع علني اجد من يقدمه لي وفكرت ان اعود الي كريم الا انهم قبضوا علي لوجودي في مكان مشبوه وتم اخطار ابي الذي أحضرني للطوارئ منذ ايام وتركني دون أن يبقى معي ليطمئن علي .
انهارت بعدها بالبكاء وأخذت تصرخ بشكل هستيري وتشد شعرها فأوصي الطبيب ابره مهدئه نامت بعدها يوم كامل.
تعجب الطبيب كثيراً عندما أمسك الورقة في الجلسه التاليه ووجدها وقد وضعت اسمها في الجزء الأكبر من الدائرة وتردد لقد اكتشفت ولأول مرة انني السبب في ما أنا فيه ! ماانا الاذبابه قذره تغوص في سلة القمامة .
قال الطبيب بعفوية:
ولم لاتقولين انك نحلة ضلت طريقها وسقطت من الإجهاد في سلة قمامة فالتصقت بها الأوساخ والقاذورات وحولت شكلها الي ذبابة وامامها الان طريقين لاثالث لهما إما ان تستقر في مكانها و تقضي باقي عمرها كذبابة او تنفض عن أجنحتها القاذورات وتطير إلى الحقول تمتص رحيق الورود وتدب بها حياة النحلة وتخرج عسلا صافيا ونظر اليها بحب وقال بهدوء لك ان تختاري وسأكون بجوارك دائماً في اي اختيار وانا متأكد ان اهلك سيرحبون بعودتك إليهم متعافيه ،
اتفق الطبيب مع والدها بإعطائها الفرصه بممارسة حياتها الجديده وان يدعمها الجميع فأبدى موافقته علي الفور.
كانت الجلسة الأخيرة قبل مغادرتها المستشفى مؤثرة للغاية انهمرت فيها دموع الأسرة.
رتب الطبيب مقاعد الجلسة واجلسها بجوار والدها واتفق معه ان يتذكرها كطفلة مرحه تنشر السعادة وان يظهر عاطفته نحوها بما يشعر به كأب فارتمت في احضانه تتأسف علي مابدر منها وتعده أنها ستكون كالنحلة ،لم يفهم والدها الكلمة فنظر للطبيب باستغراب فغمزت له وهي ترسم علامه النصر.
داومت علي جلساتها بالعياده وكان الإصرار بعينيها يبرق ويتلألأ في كل مره خاصه بعد ان افتتحت مدرسه لتعليم الأطفال الباليه بمواقفه والدها الذي أخذ في تشجيعها بعد ان وجد أن جميع أصدقائه يتملقونه ليوصي ابنته بقبول أبنائهم في مدرستها.
مر عامان لم يسمع منها إلا ان الفرحة التي كان يراها عند مقابلته والدها بالصدفة داخل المستشفى تأكد له أنها بخير.
سلمه يوما بطاقة دعوة مرسلة من ابنته ليحضر حفل تخريج أول دفعة من طلابها فجلس بالصفوف الأولي وهو ينظر لإبداعاتها في تصميم الرقصات والأطفال يرقصون بكل رشاقه في خطوات منتظمة علي إيقاع موسيقي كلها فرح وسرور .أنتهى الحفل ووقفت رنين وأمسكت الميكروفون وشكرت الحضور ووصفت طلابها بأنهم رحيق الحياة واشارت بيدها للطبيب للصعود علي خشبة المسرح بعد ان غادر الجميع واحتضنته بحب وهي تهمس في أذنه :
مازلت وسأبقى نحله .
حاله من روايتي (اوراق في درج مغلق)
ستثير اهتمامك برجاء وضع تعليق يدل علي فهمك الشخصي لتلك الحاله
زيكو
احس الطبيب بطاقة غريبة تتسلل إلى عقله وكأنه قد شحن بشحنة كهربائية تدير بقوتها مولد كهربائي وخشي أن يبدي شعوره بالارتباك بعد رؤيته للحالة.
تابع خطواتها المضطربة وهي تدخل الغرفه بعد ان نقرت علي الباب عدة نقرات تستأذن بالدخول ، كانت المريضة طويلة قويه البنيه لا تبدو عليها مظاهر الانوثه تغطي عينيها بنظارة غامقه وقد ارتدت قميص ابيض أثنت أكمامه وبنطلون من الجينز الأزرق وحذاء رياضي ووضعت قبعة علي رأسها غطت علي شعرها القصير وخط تحت أنفها شارب كالزغب
لم تكن ترتدي قرطا باذنيها او عقدا علي جيدها الا انها أحاطت معصمها الأيمن بسلسلة عريضة فضية اللون اخذت تهزها بعصبيه وتنظر حولها بارتياب ثم جلست أمامه في تحد واضح.
أمسك الطبيب بالملف وتشاغل بالقراءة لكي يكتسب بعض الوقت وتركها حتى هدأت تماما ثم قال باحترام شديد :
علمت من طبيبك بسبب وجودك فهل ترغبين أن تضيفي من كلماتك مايخصك بإصرارك علي التحويل لجنس اخر رغم ان الفحوصات اثبتت انك انثى كامله التكوين البيولوجي كما أن الهرمونات طبيعية و الكروموسومات XX.
صمتت واخذت في التفكير وكأنها تجهز ردا مقنعا للحصول علي موافقته بأقل التفاصيل وقالت بصوت خشن :
أنا رجل سجين في جسد امرأة اريد ان اتحرر كي انعم بالراحة فقد قضيت عمري في عذاب وآلام لم يشعر بها أحد سواي.
وضع الطبيب نظارته الطبيه وقرأ في سره من ملفها الطبي
الاسم: زكيه سيف الدين
العمر: ٢١عاما
المهنة: طالبه بالسنه الثالثه بكليه الهندسة (قسم ميكانيكا)
الحاله الاجتماعيه: عزباء
ثم سألها بلطف وكأنه لايعلم شيئا عنها:
مااسمك!
فقالت بسرعه:
ارجو ان تناديني زيكو فأنا لا أتقبل الاسم الآخر وكأنها كرهت ان تردد اسمها الحقيقي.
أحس انه قد اكتسب ثقتها بعد ان بدا الارتياح علي ملامحها فسئلها:
منذ متى نوديت باسم زيكو !
قالت وهي تسرد حكايتها :
منذ ان كنت طفله فقد كنت اهوي اللعب بخشونة مع الأولاد واتشاجر معهم بعنف فينالني منهم اللكمات والصفعات لأردها لهم أضعافا وانتهز فرصة انهم يعاملوني كفتاه فلايقووا علي لمس جسدي وتقييد حركتي، كنت ارتدي الشورت دائماً تحت ملابسي التي كانت تأمرني أمي بارتدائها فأعاندها وإفك ضفائري وأجمع شعري وأربطه بشده للخلف ،لم احمل يوما عروسه كباقي البنات او اضع اي زينه علي وجهي مما جعل أمي تشك في نواياي وتذهب بي لطبيب العائلة الذي طمأنها بأنني فتاة كباقي الفتيات ونصحها بالانتظار لسن المراهقة أملا في تغيير سلوكي وقتها إلا أنني كنت ازداد قربا إلى مخالطة الأولاد واللعب معهم ألعابهم الرياضية العنيفة وأخذت برفع الأوزان الثقيلة حتى اكتسب جسدا قويا يعفيني من نظراتهم لي كفتاه .
مرت سنوات وسنوات وانا ازداد نفورا من جنسي وتتزايد رغبتي للانتماء لعالم الذكور فيئس اهلي من حالتي وتركوني وحدي أعاني في صمت غير قادرة علي مصارحتهم بشعوري الحقيقي إلى أن بدأت في التقرب تلإحدي صديقاتي بالمدرسة كنت اشعر بحب جارف لها كشاب مراهق وأحلم بها في أحضاني فأشعر بالنشوة تزلزلني من داخلي.
لاحظت أمي أنني أغدق عليها بالهدايا وإجالسها بالساعات ونظرات عيني تشي مابقلبي تجاهها فابعدتها عني بقسوه ظللت بعدها أعاني ألم البعد والهجران.
اصبت بعدها بالاكتئاب وعاودت كثير من الأطباء النفسيين الا اني لم اذكر لاحد منهم مشكلتي الحقيقية فقد كنت اري كل همهم إعطائي الأدوية دون التفكير في سبر أغوار نفسي المضطربة فحاولت الانتحار يوما الا انني واجهت نفسي و أصررت علي التفكير في حلول اخرى غير الهروب من الواقع.
قال الطبيب بعد ان احس بصدق حديثها :
وهل وجدت اي حلول اخري!
قالت وهي تبتسم ابتسامه خفيفه :
في الحقيقه وجدت الحل مع إحدى الصديقات تعاني ما أعانيه والتي تعرفت عليها بالصدفة في الكليه عندما سألتها ونحن نتبادل الضحكات عن سبب اختيارها ذلك القسم الذي يفضله الطلاب فقالت غير مكترثة:
ما الفرق بين الولد والبنت ! انه شعورنا الداخلي هو الذي يحدد هويتنا بغض النظر عن خصائصنا البيولوجية التي تقسمنا الى ذكور وإناث.
كانت كلماتها المفتاح الذي فتح لي أبواب معرفة حالتي بشكل علمي بعد ان كنت اعتقد علي الدوام بسبب تهكم الجميع انني فتاه شاذه او مجنونه.
صارحنا بَعضُنَا بأفعال لم أكن احلم ان احكيها لأحد وكانت تضحك من قلبها لتقول لي انها نفس افعالها فقد كانت ترفض التبول في وضع الجلوس و تتخيل مثلي بأنه سيظهر لها عضو ذكري وتتخلص من ثدييها يوما ما وبدأنا معا بلف رباط ضاغط علي صدورنا كي نمحي اي اثر يدل على وجوده و انغمسنا في المواقع الالكترونية نستخرج من كنوزها ما يساعدنا علي الولوج لعالم يمثلنا واستقر رأينا علي البدء في استخدام الهرمونات الذكورية
قال الطبيب محاولا أن يخفي شعوره الحقيقي بالرفض :
هل واجهت اي صعوبات او مشاكل !
تذكرت عندما بدأت أعراض الذكورة تظهر بوضوح وتحري والدها حتى علم بأمرها فجن جنونه و لجأ لأسلوب الضرب والتهديد منذّرا إياها بغضب الله وطردها من رحمته وأخذ يعيد عليها بان الشيطان هو الذي يوسوس لها ويردد الايه (ولآمرنّهم فليغيّرُنّ خلق الله )
أصبت بعدها بكرب شديد وامتنعت عن الذهاب للكلية وانفردت بنفسي في غرفتي وانعزلت عن الأسرة وأصبحت أفكر بالانتحار مرة أخرى فاحضروني اليك وهما الآن في الانتظار بالخارج منتظرين قرارك !
كانت الساعة قاربت علي الرابعه والنصف فاتصلت الممرضة بالطبيب تستفسر عن التأخير بعد أن شعرت بقلق والديها بصالة الانتظار .
كان الطبيب قد وصل إلى أدنى درجة من النشاط الذهني فقرر دخولها القسم الداخلي كي يكتسب مزيدا من الوقت لمراجعة انسب علاج لتلك الحالة وأن يتأكد من سلامتها وتوقف افكارها عن الانتحار فوافق والديها بسرعه وكأنهما ينتظران ذلك الامر من البداية ولم تعارض المريضة فقد كانت تتمني الابتعاد عن أسرتها لفتره تسترد فيها انفاسها وكأنها تستعد لقطع شوط اخَر في خطتها الغير معلنة .
بدأ الطبيب الجلسة في اليوم التالي وهو في قمة النشاط حتى أن مريضته ابتسمت قائله:
أراك اليوم أحسن حالا من الامس
فقال وهو يجاريها وانت ايضا ياسيد زيكو الا انني لااعلم اذا كان هذا من أثر الحشيش الذي وجدته في التحليل ام لبعدك عن اهلك !
بهتت للحظات وقالت باضطراب لم أتناول الحشيش منذ اكثر من أسبوعين فقال الطبيب وهو يطمئنها انا لا اوجه إليك أي اتهام فلست قاضيا فقط اخبرك بان الحشيش يترك آثاره لمدة أربعين ليلة.
هزت رأسها قائلة:
معلومه مفيده سأتذكرها حتي لا اقع في مشاكل مستقبلا
فقال بحرص وهل وقعت في مشاكل سابقا!
قالت بخجل نعم!
فقال يشجعها علي التحدث :
هل يمكنك اخباري ببعض المشاكل التي وقعت فيها وانت بوضعك الجديد .
أعجبتها طريقته في التحدث اليها بأسم زيكو فقالت :
مرات عديده انسي أني فتاة و اتصرف بطبيعتي كرجل فلا أنسى يوم أن ذهبت الي السينما مع بعض الأصدقاء وفي الاستراحة وجدت نفسي اتجه الي دورة مياه الرجال واقف مثلهم واذا بنظرات الدهشة تعلو وجوههم فخرجت مسرعه وانا في قمه الخجل الا انهم تقبلوا امري وسرعان ما نسوا وقد تخيلوها دعابه جريئة بعد أن لَعب الحشيش بعقلي .
قلت وكأني ألقي إليها بسر خطير :
اسمعني يا زيكو جيدا انا اعتقد ان الحشيش ساعد علي زيادة نسبة الدوبامين مما عرضك لافكار ضلالية كما ان زيادة نسبة التيستوستيرون يمكن ان تؤدي الى الاكتئاب والأفكار الانتحارية ما استدعى علاجك ببعض الادوية اولا ثم نكمل بعد ذلك جلساتنا النفسية وأرجو منك المشاركة بنشاطات القسم فقالت بتأسف لأاظن أنني يمكنني ذلك فأنا هنا في قسم النساء اجد نفسي غريبه !
لم يدري الطبيب كيف يتصرف في هذه المشكلة فقد كان من غير اللائق ان يتركها فريسة لقسم الرجال.
ترك المهمة لممرضات القسم بعد أن شرح لهم الحاله فتجاوبوا معها بحرفية مما جعل بقائها بالقسم هادئ دون مشاكل تذكر.
شعرت زكيه بمدى اهتمام الجميع بها فتحسن مزاجها وتخلصت من فكرة الانتحار نهائيا وأصبح الحديث معها اكثر عقلانية الا انها لم تتخلص من فكرة تحولها لذكر.
ازدادت ثقتها بالطبيب بشكل رائع فوجدها يوما تطلعه علي مفكرتها الخاصة وقد كتبت في أول صفحة
( الخطة)
كانت خطتها تقتضي ان تمكث أطول فتره بالقسم لاقناع والديها بأنها تستجيب للعلاج وعندما تغادر القسم تكون صديقتها قد رتبت للسفر لكندا معها لعمل عملية جراحية هناك.
شكرها علي ثقتها به وقال لها بحب :
زيكو انا لأاجد فيك اي شئ يمنعك عن تنفيذ خطتك فأنت كامل الأهلية ومسئول مسئولية تامة عن تصرفاتك الا ان من واجبي أن اوضح لك كل ماخفي عليك فنتائج العملية قاطعه ولايمكن التراجع بعدها وتظل طوال العمر نادما وفي أغلب الأحيان ستعود إلى تدخين المخدرات لتعود للاكتئاب ومحاولات الانتحار وعلى هذا وبعد معرفتك بتلك النتائج واصريت علي السفر لإجراء العملية فأنصحك ان تعيش لمدة سنتين على الأقل تجربه حياتية كذكر مع الوضع في الاعتبار أن الهرمونات لن تصل بك النتيجه المرجوه التي تتوقعها وستكون هناك فجوه كبيره بين توقعاتك وواقعك الذي تعيشه وتمتلئ تلك الفجوة بالغضب والإحباط.
تركها تفكر في جميع النتائج كي تراجع أفكارها الا ان اصرارها كان غريبا فسألها وكأنها سافرت بالفعل لكندا:
من يدعمك ماليا بكندا ويقف بجانبك خلال ذلك المشوار الطويل !
قالت وكأنها مستعدة الاجابه منذ زمن:
اولا انا قاربت علي التخرج وسأعمل هناك بواسطة احد أصدقاء والد صديقتي والذي وافق علي سفرها ولاادري هل موافقته للتستر عليها ام انه فعلا يقف بجانبها لعلمه بطبيعة الحالة واتمني ان يفعل ابي نفس الأمر فيوفر علي مجهودا دون داعٍ
فقال وكأنه يختبر صبرها:
هل تعرفت انت وصديقتك علي اي شخص اخر قام بنفس العملية
فقالت دون ان يرمش لها جفن كثيرون ويعيشون الآن في حاله نفسيه رائعه بعد ان تخلصوا من قلقهم والإزعاج الذي تسببه حياتنا المقيدة بجسد لم نختاره.
احس من إجابتها انها استعدت لجميع الاحتمالات فقال وهو متاكد من ان لديها الإجابة :
هل تعتقد انك ستتحمل التحديات التي تواجهها مع عائلتك او أصدقائك
فرد بتحدي :
لا تنسي انني سأغادر ذلك البلد وأكون صداقات جديدة بعد استعادتي حريتي ومن يحبني فعلا يجب ان يبارك لي تلك الخطوة
القي الطبيب آخر مافي جعبته من اسئله قائلا:
كيف تدير أمورك في مجتمعك الجديد وهل انت متاكد من وجود فرصه عمل لك بعد التحول .
فأخذ يضحك حتى بدأ في السعال وأخرج من جيبه ورقه ناوله إياها لقراءتها بعد ان رآه يهم بالوقوف متجها لخارج الغرفه .
عاد الطبيب لعيادته وفتح الورقه وأخذ في قراءتها باندهاش.
الإنسان في أونتاريو.
ينص قانون حقوق الإنسان على المساواة في الحقوق والفرص والتحرر من التمييز.
تأمين أقصى درجة من الخصوصية والسرية ويضمن ذلك ملفات العمل والمعلومات الطبية وغيرها.
وضع الورقه داخل ملفها الطبي وهو يسائل نفسه :
من منا علي الحق !
شرح الطبيب لوالديها انه من الخطأ النظر الى قضية الخلل في هويتها الجنسيه من أنه تشبه بالجنس الآخر لأنها لم تسع الى هذا الأمر بمحض ارادتها ولكن سبق قدر الله عليها لحكمة منه سبحانه ونصحهم بدورهم الكبير بتفهم القضية من الناحية الطبية بعيدا عن تحميلها النصوص الشرعية فتتفاقم الحالة بدون داعٍ.
كادت نظرات والدها تشي بمكنونات عقله وفهمه الديني الذي تربي عليه بحرمانيه التحول الجنسي فقال الطبيب بحكمه وكأنه رجل دين متمرس لينهي الجدال:
لقد أباح العلماء التداوي بالمحرم عند وجود الضروري أليس كذلك!
اختفي زيكو تماماً بعد خروجه من المستشفى ولم يعاود جلساته النفسية بالعياده كما اتفق معه ولم يراه الطبيب الي يومنا هذا واغلب الظن انه حتي لو رآه لن يتعرف عليه بعد أن ذاب في عالم الرجال.
قصه حزينه من روايتي (اوراق في درج مغلق)
ملحوظه:
من الصعب تحمل قراءتها لذوي الشعور المرهف
بدون أسم
بدأت حديثها بنبرة يشوبها الحزن والالم ، لقد أضعت سنوات حياتي ألهث وراء سراب .
أخرجت المرآه من محفظة يدها لتتحقق من ملامحها. رمتها بسرعه من يدها فتبعثرت شظاياها عندما رأت وجهها اجزاء متباعدة انفصلت فيها العين عن الحاجب.
صرخت بحده وكأنها استيقظت من احلامها لتعود الي ارض الواقع
الأليم: ليس هذا ما كنت أتوقعه. ثم همست إلى أعماقها:
أنا انسانه بلا ملامح منذ صغري ولا أدري أي قناع كنت أودّ ان ارتديه !
حاول الطبيب أن يهدئها ويطمئنها بأنه مازال هناك أمل، إلا انها نهضت واقفه وغادرت غرفه العياده وهي تضحك ساخره :
أي أمل!
عادت الي منزلها ساخطه يائسه وقد عقدت العزم علي إنهاء حياتها بعد أن أقنعت نفسها بأنه الحل الوحيد الذي يريح الجميع وخاصه والدها الذي سببت له متاعب جمة في الفتره الأخيره !
لم تنم يومها وظلت مستيقظة طوال الليل تتسائل عن العمر الذي يبدأ فيه الانسان ادراك ملامح وقسمات وجهه .
أمسكت رأسها بكلتا يديها وهي تخشى الجنون بعد ان تعالت لعناتها
وهي توجه نظرها إلى السماء:
لماذا لم تجعل لنا عينا ثالثة في كف يدينا لنري بها وجوهنا وتتركنا
ندرك قبح صورتنا أو جمالها في وجه من ينظر إلينا.
اخذت الأفكار تدور وتدور في رأسها لتغوص في أعماقها وتتساءل
بحيره : متى يبدأ الانسان في رؤيه ذاته الداخلية ؟
قامت متكاسله وكادت ان تقع في طريقها الي المطبخ بعد ان ابتلعت كميه من حبوب الدواء وألقت عروستها في الفرن وهي تبكي قائله :
كان بودّي ان اعطيك بعضا من الحبوب الا انني فضلت ان تحترقي
وتموتي فقد كان هذا املي منذ زمن. أن أموت ذات يوم في حريق ما حتى لا أحيا عذاباً لا ينتهي.
انتاب والدها نوبه بكاء حاده وهو يتهم نفسه بأنه سبب مأساتها مما زاد الموقف غموضاً.
نظر لسقف غرفه الطوارئ وكأنه يستعيد مشاهد حاول أن ينساها.
دارت عينيه وكأنه يبحث عن شئ ما. عاود النظر الى ابنته وردد كلمات عذبة يشوبها الشجن.
كانت باسمه الوجه حلوه التقاطيع تحنو علي عروستها التي صنعتها والدتها من القماش الملون. كانت تغير لها فساتينها وتسرح لها شعرها بحنان بالغ، ثم تحتضنها وهي نائمة بجوارها . لكن الويل ثم الويل لمن يحاول ان يأخذها منها إن صحت وانقضت عليه كقطة برية يُخطف وليدها.
كان اليوم المشئوم هو يوم عيد ميلادها الثاني وأقمنا لها حفله تحاكي بها الأهل والاصدقاء ولبست فستان من الساتان الأبيض ووضعت والدتها علي رأسها تاج ذهبي فأصبحت كالملكه ندور حولها مهنئين متمنيين لها العمر المديد .
كانت المسكينه تستمع لكلمات والدها قابعه في سريرها الطبي بغرفه الطوارئ دون ان تنبس بكلمه. تخترق المحاليل الطبيه ذراعها لتبث في جسدها الرقيق رمق من الحياه. ابقت كفها الايسر علي نقابها وكأنها تتأكد من اخفاء وجهها حتي لا نرى بكاؤها أو ملامح حزنها.
عاد الي النظر لسقف الغرفه وكأنه يراجع اخر مشهد توقف عنده منذ قليل ليرى نفسه يساعد زوجته في لملمه اثار مابعد الحفل بعد ان تبعثرت محتويات المنزل في كل اتجاه ومع خروج اخر ضيف. استلقي على السرير بجانب زوجته التي غطت في نوم عميق بعد يوم مرهق .
اشعل سيجارته وأخذ منها انفاسا متلاحقة. صحا بعدها علي رائحه حريق ودخان كثيف ينتشر في أرجاء الغرفه بعد ان وقعت سيجارته المشتعلة من يده وهو نائم .
لم يدرِ بنفسه الا وهو يشعر بالاختناق وزوجته تسعل بشده تسير
بخطوات مترنحه آمله في الهروب وهي تحثه علي النهوض. قام وهو يكاد ان يغشي عليه محاولا الصعود الي غرفه أبنته بالطابق
العلوي الا ان النار كانت قد امتدت الي السلالم الخشبيه فأصبح الصعود مستحيلا بعد ان تهاوت الكتل الخشبية مشتعلة مما زاد الأمر سوءاً.
وقفا بخارج المنزل آملين ان تنقذها العناية الالهيه بعد ان صوبت
وحدة المطافئ خراطيم المياه نحو غرفتها. بعد لحظات خرج رجل المطافئ حاملا الطفلة علي يديه وكأنها خرقه سوداء باليه تحتضن عروستها التي تشوهت ايضا بعد ان طالتها نفحات اللهيب القاتلة .
كانت معجزه بكل المقاييس ان نراها بيننا مره اخري بنفس الابتسامه الساحره. لم تدرك المصيبة لصغر سنها واستقابلنا لها بنفس البشاشه ولم تعِ فداحة ما أصابها من تشوهات في وجهها، إلا انها أحيانا كثيره كانت تشاور علي باقي جسدها وتضغط بأصابعها الرقيقة علي الندبات العميقة التي اسود لونها فباتت وكأنها طريق كان ممهدا يوما ما وانقلب الى طريق مليء بطبقات من الركام بعد زلزال عنيف. سلمنا امرها لله وبتنا في عذاب ونحن نراها تكبر يوما بعد يوم دون ملامح تنبي عن مشاعرها أو شخصيتها.
ربتت زوجته علي كتفه تحثه علي الصبر لابتلاء الله قائله:
لقد ارتدت المسكينه النقاب رغم صغر عمرها فقد كان يخشاها الجميع لبشاعة منظرها!
نظرت الى الطبيب بحسره وشرحت له كيف ان قرارهما بذهابها الى
المدرسه كان صعبا للغايه بعد ان أصبحا بين شقي الرحي. كان عليهما الاختيار بين تركها بدون تعليم درءاً لما يمكن ان تعانيه من تواصل مع
مجتمع لا يرحم مصابها. أو الحاقها بمدرسه تنال منها قسطا من التعليم يجعلها تقبل علي الحياه فينفتح لها باب يمكنها من خلاله ان تمر عبر أبواب اخري ان ارادت.
غالبت الدموع عين الطبيب وأحس بغصه في حلقه بعد ان بدت له الصوره واضحه فاقت خياله. وعندما كشفت عن نقابها دون سابق انذار وكأنها ارادت ان تفسر سبب محاوله انتحارها. بدت بدون
أذنين. كل ما هنالك ثقبين سلما من الحريق. كذلك ارتخى جفن العين اليسرى العلوي. كما انكمش جلد ما تحت الرقبة مما شد شفتها السفلى إلى الخارج فتدلت ببشاعة. كما زاد المشهد ألماً تآكل مساحة كبيرة من فروة الرأس فبدت بقع صحراوية على رأسها.
كاد الطبيب ان يسألها عن شكلها قبل كل العمليات التجميليه التي قامت بها الا انه فضل ان يسألها بشكل أفضل فقال بصدق وثقه:
اري ان طبيب التجميل قد قام بعمله علي اكمل وجه فانا لا أري سببا لكل هذا الخوف .
تدخلت والدتها قائله :
لقد نصحنا ان ننتظر بضع سنوات لإجراء باقي العمليات لإعطاء جلدها فرصة للنمو فتعود بعدها كما كانت وأحسن
قال والدها بهمس:
اي سنوات اخري من العذاب !
كانت مهمه الطبيب شاقه في الشرح لها بان الجمال هو الإحساس
بالروح وان الروح داخل الجسد حره طليقة تسمو بأعمالها وخلقها وان تلك الاجساد ماهي الا صناديق تتبدل علي مدي العمر لتبقي الروح بما حوت من خصال .
الا انه وببساطه شديده سألها عن هواياتها وهو ينظر اليها فبدّت جميله بعد ان ارتسمت الابتسامه وهي تتذكر عروستها التي كانت تزينها وتمشط ماتبقي من شعرها ! ثم سكتت وأختفت بسمتها بعد ان تذكرت أنها ألقتهابالفرن وقالت دون اهتمام أحب قراءه المجلات ومشاهده الافلام الكرتونية وخاصه سندريللا.
قال وكأنه يحفز فيها طاقتها :
وماذا عن الرسم فأخرجت ورقه مطوية فردتها بحرص لتريه صوره مرسومه بالقلم الرصاص لمنزل يحترق بعدان سيطر اللون الأسود علي محتوي الصورة. دقق الطبيب بالنظر فإذا به يري خيالين بطرف الصورة بينهمادائرة شطبت بداخلها بخطوط متعرجة فسألها باهتمام عن مقصدها فقالت بدهشة:
أنهما والداي وانا بينهما ! اشارت الي المنزل بإصبع مرتعش انه منزلنا يوم الحريق. سحبت الورقه من بين يديه وطوتها وأعادتها تحت وسادتها.
أصبحت الحاله واضحه تماماً أمام الطبيب بعد ان رأي أمامه والدين يشعران باللوم وتأنيب الضمير وقد استسلما للواقع وتركاها تواجه الحياه بشكلها الحالي لتتاقلم وتتعود مع مضي السنين، مع اقتناعهم بأن هناك الآلاف من البشر يواجهون حياتهم بعجزهم ويصنعون المعجزات ومريضه أرهقت علي مدي عمرها بعمليات تجميليةمكثفة لم تسفر سوي شبه وجه بشري تتكالب عليها تعليقات من لا قلب لهم كما تتكالب الطيور الجارحه على فرخ صغير وقع بين براثنهم
كانت نصائح الطبيب لا تتعدي الاهتمام بهواياتها ودعمها بشكل متواصل ووضع قواعد للتعامل معها بعد شرح طبيعه حالتها وحساسيه الموقف لمجموعه دعم من الأصدقاء تَوسم فيهم الطيبه وحب الخير .
تحسنت حالتها مع مضي الوقت بعد ان أبدي الجميع تعاطفهم ورغبتهم بمشاركتها اللعب كما شجعتها مدرسه الرسم علي مواصله رسومها وأهدتها علبه ألوان مائية وفرشاه فأبدعت برسم الورود والبوتريهات وتوقفت عنالرسم بالقلم الرصاص .
راجعت بعدها بالعياده الخارجيه مرات وحدد لها مواعيد مع الأخصائية النفسيه لمواصلة المشوار معها بعد ان وضعت خطه طويله المدي للدعم الإيجابي وتحسين السلوكيات.
انقطعت أخبارها بعد ان توقفت عن الحضور في مواعيدها فاعتقد الطبيب بأنها تأقلمت او انشغلت بعمليات تجميل اخري فأثر تركها لحالها متمنيا لها السلامه .
مرت سنوات وسنوات ليفاجئ يوما باستدعاؤه لغرفه الطوارئ ليراها مره اخري بعد ان كررت محاوله الانتحار وقد ذهبت في إغماءه تحت تأثير المخدر بعد ان انتابتها نوبه هيجان لفقدها فرصه انتحارها .
ما ان رأه والدها حتي قال ولسانه يلهج بالشكر والثناء :
كنت أخشي ان تكون عدت الي بلدك فقد مرت سنوات من اخر زياره اجرت خلالها عمليات تجميل للوجه والبطن وتوقف طبيبها عن اجراء اي عمليات اخري بعد ان استخدم كل انسجه الجلد .
جلس الطبيب مع والدها بالغرفه الملحقة بالطوارئ ليستمع بالتفصيل عن ماحدث فقال والدها والالم يعتصره:
كانت المسكينه تزيد من توقعاتها باستعاده وجها تواجه به الحياه القادمة وخاصه بعد ان بدأت صديقاتها المراهقات بالتحدث عن الحب والزواج فباتت المسكينه في ارق دائم تتحسس وجهها وبطنها الي ان هبطت الي ارض الواقع بعد ان أعلن طبيبها بعدم جدوي اي عمليات اخري فشارفت علي الجنون وانتابتها حاله بكاء حاد انهتها بان اغلقت غرفتها من الداخل وتناولت كميات من حبوب الاسبرين وتركت تلك الورقه تحت وسادتها !أتتذكرها انها رسمتها القديمه الا انها مسحت الدائره الصغيره تماماً !
وأضاف لقد بحثت كثيراً عن حالتها علي الانترنت وأضناها البحث حتي عثرت بالصدفة علي برنامج تلفزيوني لبناني يقدم الحل لمن هم علي شاكلتها ليجري لهم عمليات تجميلية وتكميلية علي شرط ان يكون لهم الحق في استخدام كل المعلومات عنها بشكل تجاري بعد ان يبدلن خلقتها. ثرت ثوره عارمه أحذرها من مغبه ذلك الامر مسترشدا بآيات الله (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذالشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا)لتصرخ في وجهي لقد خذلني الله في خلقه فدعني اري ماذا سيقدم لي الشيطان!
هويت بكفي علي صدغها ولأول مره مرددا استغفر الله استغفر الله.
قال الطبيب بتحفظ بالغ إذن فقدت فرصه العلاج بلبنان .
استشاط غضبا الا انه احتفظ بقدر من الاحترام وقال بهدوء:
اي لبنان يادكتور انه وهم اخر تحاول المسكينه اللهث وراءه ،لقد ذهبت الي أطباء كثيرين كل يعدها بانه المنقذ ويستغل حاجتها الي ان يتهرب منها متحججا بصعوبة الامر ثم اخرج خطابات عديده ارسلها للديوان الاميري للمساعده في علاجها بالخارج وأخذ يقرأ واحد تخلو الاخر ليبدأ بالتاريخ مشيراً “هذا الخطاب أرسلته وعمرها ست سنوات” .
ألقي بباقي الخطابات علي الارض وداس عليها بحذاؤه وهو يردد سنوات وسنوات ولا اتلقي اي رد الي ان فقدت الأمل.
بدأ الطبيب الجلسات النفسيه وأشار ببعض الادويه وتحسن مزاجها بشكل واضح فسألها باهتمام:
كيف كنت تتخيلين ان تنتهي معاناتك !
سكتت قليلا وكأنها تتخيل وجها مثيرا تتمناه الا انه وجدها تقول بكل بساطه:
لأ انكر انني وبعد كل عمليه احلم انني اصبحت جذابة ومثيره لتتحطم أحلامي علي صخره الواقع فتعيدني الي حقيقتي ولااريد الان سوي أذنينن فما زلت أعاني من التعليقات الساخره ووصفي بأذن السمكه!
اشعر بطعنه في صميم قلبي واتمني ان اختفي من الحياه. تبلورت فكره الانتحار وأخذت أراجع مختلف الطرق علي الانترنت فوجدت أقلها آلاما بابتلاع كميه من حبوب دواء ابي لاشعره باللوم وتأنيب الضمير لاشفي غليلي من رفضه تقديم يد ألمساعده رغم انني ضحيه إهماله.
ما ان انتهت من إطلاق مشاعرها حتي طالبها الطبيب بوضع الحقائق التي تثبت اتهاماتها لوالدها مع وضع بدائل لتصورها وأنهي الجلسة بوضع سيناريوهات مختلفه لحالتها فبدأ بأفضلها فقالت بسرعه:
امتلك أذنين!
قال الطبيب :
وما أسوأ سيناريو!
قالت بخوف حدوث التهابات بالجروح تؤدي الي تفاقم التشوهات او تتيبس مفاصلي .
قال وقد شعر بانها بدأت في فهم ما يعنيه:
وماذا عن الوقت الحالي!
قالت وهي تشير بيدها لأعلي وكأنها تدعو الله ان يديم عليها صحتها :
الحمد لله لقد تحسن شكلي كثيراً عن ذي قبل وبت أتقبل ما انا عليه.
انهي الجلسة بواجب جديد كما تعود في كل مره وقال لها باهتمام :
لقد راجعت فتره ما كل أساليب الانتحار فلماذا لا تبحثين هذه المرة عن موضوع الإذن التي تتمنيها!
مرت أيام واظبت فيها علي مطالعه أخر الأبحاث المتعلقه بمشكلتها لتتصل بِه وهي تصيح:
وجدتها وجدتها!
فقال بابتسامة عريضة :
ماذا وجدتي يا أرخميدس عصرك لتحضريني في هذا الوقت المتأخر !
نظرت إليه بخجل وهي تتأسف وأشارت باصبعها بفرح ها هي أذناي ! انها في فرنسا.
اقترب من الشاشه وأخذ يقرأ باهتمام ليجد معلومات أصابته بالدهشه فقد كانت الفكرة من البساطة لدرجةأنها لم تخطر بباله.
أخذت تشرح بإسهاب :
لقد صنعوا لدائن مطاطية بشكل الإذن الطبيعية مثبت بها قطعه سلبيه من المغناطيس وتغرز تحت الجلدحول فتحه الإذن القطعه الإيجابية من المغناطيس لتلتصق بها وتثبت في مكانها.
وعدها الطبيب بمحاوله الاتصال بتلك المستشفي بباريس وأقنع والدها بإرسال خطاب اخر الي الديوان الاميري مصحوبا بتقارير طبيه وصور لما هي عليه لتدعم أحقيتها في العلاج بالخارج .
كان إقناع والدها من الصعوبه بعد ان عارض إرسال صور لوجه وجسد ابنته مكشوفا الا ان الطبيب أصر لعلمه التام بمدي أهمية تأثير المنظر البشع علي عاطفه من بيدهم الامر.ً
اصبحت الجلسات بعد ذلك تبدأ وتنتهي بالامل وكان الخوف كله ان ترفض اوراقها الا انها كانت من الشجاعه بقولها يكفي شرف المحاولة.كانت فرحتها لا توصف بعد أن تمت الموافقه لسفرها الي فرنسا مع انتهاء إجازة عيد الميلاد هناك. مع وجود مرافق معها.
كان الوداع حارا وتلألأت دموعها وهَيِ تحتضن أفراد القسم فردا فردا الي ان ألقت برأسها علي كتف الطبيب باكيه وأخذت تقبله ثم ادركت انفعالاتها وأحست بالخجل ووضعت يدها علي شفتاها وكأنها تخشي ان تكون قد سببت له اي ازعاج بملامستها آياه فاحتضنتها وقرب خده من شفتيها فقبلته مره اخري وهي تشعر بالامتنان . خلع قفازيها وقبل يدها التي دوما كانت تخفيها خوفا من رفض الآخرين بالسلام عليها للتشوهات الظاهرهبظهر اليدين.
مرت عده شهور تواصل معها علي الهاتف اكثر من مره ليخبره والدها بكل التفاصيل ولسانه يلهج بالدعاء.
بعد فتره ليست بقصيره أقامت المستشفي معرض لرسومات المرضي واعلنت عن حمله دعائية بتعريف وصمه المريض النفسي وأثرها علي نفسيته.
اقتربت احدي الفتيات سائلة مديره الحمله بأدب بالغ:
هل يمكن ان اضم احدى رسوماتي للمعرض !
ارتجت المديره وتلعثمت لا تدري ماذا تقول لضيق الوقت وانتهاء الوقت المحدد لتسليم الرسومات الا انها هزت رأسها بالإيجاب فأخرجت الفتاه رسمتها القديمة بعد ان أضافت لها الدائرة وقد زخرفتها بالألوان ووضعت بداخلها ورده .
لم يصدق الطبيب عيناه وهو يراها تتجول داخل المكان بكل ثقه وقد أرخت حجابها خلف ظهرها تتمايل بخفه وقد عقصت شعرها كذيل الحصان لتظهر اذنيها وقد وضعت في شحمتها المطاطية قرط ذهبي يخطف الابصار وكأنها تعلن لعالم الرجال عن مولد انسانه ليعترف بها ويضمها لعالم النساء.
لاحظ الطبيب انها بين الفينه والآخري تضع يدها لتتأكد بوجود إذنها في مكانها ثابتة إلا أنها تخلصت من تلك الحركة بعد مدة قصيرة من الزمن .
أختفت بعدها وكأنها اكتفت بما حققته من نجاح بالتغلب علي يأسها ولم يعد يراها الي ان تسلم منها بعد عده سنوات دعوه لحضور حفل زواجها باحدي الفنادق وقد كتبت فيها:
طبيبي الرائع:
صفت لي الأيام وابتسمت
وحقق الله لي ما تمنيت
وسعدت بنصيبي والعقبى لك باولادك.
من قصص روايتي الاخيره ( اوراق في درج مغلق)
جودي
صاحت الطبيبة الامريكية لاعنه المجتمع العربي متهمة إياه بالتخلف قائله بزهق:
أكاد أن أثور مع مريضتي علي مجتمعها الذي يفرض عليها ما ورثه من تخلف وهي تناضل وتكافح بحقها في تطوير ذاتها والحصول على أعلى الشهادات .
أوقفها الطبيب بعد ان لاحظ انفعالها وشعر بأنها تتكلم كإنسانة امريكيه وليست كطبيبة وذكرها بالحيادية في التعامل مع الحالات النفسية فصمتت قليلا وهزت رأسها آسفة وقالت:
أكاد أجن فمريضتي بالقسم الداخلي منذ أكثر من أسبوعين ولم يجدي معها أي علاج بعد ان واجهت صعوبات مع والديها لاقناعهم بضرورة سفر ابنتهم لامريكا لتكملة مشوارها العلمي .
أمسكت بيد الطبيب برقه وقالت بثقه :
انا متأكده ان لمساتك السحريه ستنهي مشاكلها.
ماان رأي المريضة حتى أدهشه الذكاء الذي يتقد من عينها وطريقة حواراتها العلمية التي أبهرته تماماً فكاد يوافق الطبيبة فيما وصلت اليه بعد ان احس بالفرق العلمي بينها وبين من بعمرها .
قدم لها نفسه واخبرها بطلب طبيبتها بتحويل الحالة تحت رعايته وسألها بأدب لموافقتها فلم تمانع بل شعرت بدخولها معركة جديدة تثبت فيها وجهة نظرها ولسان حالها يقول لقد أقنعت الطبيبة الامريكية فهل تظن نفسك قادر علي إقناعي !
جلست وهي تتكئ علي يد الكرسي متحفزه فطلب منها إرجاع ظهرها للخلف واخذ نفس عميق لتشعر بالراحة فلم تبالي بكلماته وظلت كما هي قائله :
انا بخير وفي سلام نفسي والمشكله لا تخصني بل والداي ويمكنك التحدث معهما حتى تعرف ما اعانيه في مجتمعنا الجاهل!
احس انها تعيد كلمات الطبيبة الامريكية فقال بهدوء :
عذرا هل يمكنك التحدث عن معاناتك وسبب حضورك وكيف أساعدك وماذا تنتظرين من تواجدك بالقسم فقد علمت انك هنا أكثر من أسبوعين دون جدوي واراك والحمد لله مسيطرة علي انفعالاتك وتتحدثين بعقلانية كما أستطيع أن أقول انك تملكين زمام أمرك.
ضحكت المريضة ضحكه ساخره وقالت هازئة:
زمام أمري ! ماانا الا مهره بائسة قفزت من فوق الأسوار لترعي بحريتها في المراعي الخضراء واعادوها صاغره بعد ان ألجموا زمامها وأحاطوها بسياج فظلت تفكر كيف تعود إلى المراعي مره اخري لتنعم بحريتها وسط الخيول البرية حتى كادت ان تفقد عقلها.
كانت كلماتها عميقة المعنى وكان لابد له ان يجاريها بكلمات قويه أصبحا وكأنهما يلعبان مباراة تنس يتباريان في الضربات القوية بانتظار أحدهما تسجيل نقطة الفوز .
قال الطبيب :
دعينا نبدأ من حيث انتهيت فعرفيني اولا بأسمك وعن سبب وجودك !
رجعت ظهرها للخلف وانسدل شعرها الأسود الفاحم علي كتفيها ونظرت بعينيها السوداوين الواسعتين وكأنها تنتظر لتستمتع بمدى دهشته عندما أعلنت عن اسمها فقالت دون أن يهتز لها جفن :
اسمي جرادة !
جدودي من البدو الرحل الا ان ابي واتته الفرصة للتعلم بأمريكا وعاد لوطننا يعمل بإحدى الشركات الاجنبيه الا انه ابقى علي جذوره بداخله ولم تتغير طباعه واصر علي روحه البدوية حتي اسمي لم يوافقني علي تغييره فقد كانت العادة أن يسمون مواليدهم اسم أول شئ تقع عليه أعينهم عند سماعهم بقدوم المولود ثم ضحكت ساخرة وكان حظي الجراده
اكملت بنفس روح السخرية وأنا هنا منذ اكثر من شهر بعد ان كسرت كاحلي بعد هروبي من المنزل فاحضرني والدي للطوارئ ومنها لقسم العظام الذي حولني القسم النفسي تحت رعاية طبيبتي الامريكية بعد ان هددت بالانتحار عند زياره أهلي لي وانا في قسم العظام.
قال الطبيب باستغراب :
وما سبب هروبك من المنزل!
قالت بأسف:
لقد عدت الي الوطن بخديعة من ابي الذي لم يوافق على تكملة دراستي الدكتوراه بعلم الاقتصاد واكتفى بشهادة البكالوريوس كما فعل هو .
حاولت ان اشرح له رغبتي في تكملة مشواري العلمي الا انه اصر علي عودتي للزواج من أحد أقاربي وصدمني بقوله ان اي فتاة لابد ان تتزوج وترعى بيتها وأولادها وما العلم الذي سمح لي بالحصول عليه من أرقى الجامعات الا كشكل اجتماعي .
عقدت العزم علي الاستمرار في التحصيل بعد ان حصلت علي منحة جامعية علي آثر تفوقي بامتياز وتعاملهم معي علي أني طالبه مجتهده لها نفس الحق دون تمييز.
كان يسعدني نطقهم لاسمي بالانجليزية فكنت أجد له رنه وكأنها نغمة بدلا من لفظها بالعربية بإهانة وتهكم.
اتصلت بي والدتي يوما باكية لتخبرني بتعب والدي المفاجئ وضرورة إجراء عملية القلب سريعا فنسيت كل شئ وعدت في اول طائره الى الوطن وانا لأفكر الا فيه وعندما دخلت المنزل رأيته والبسمة علي وجهه ليخبرني بتحديد موعد زفافي لابن عمي.
نزل الخبر علي كالصاعقة ولم ادري بنفسي وأخذت أصيح معلنه رفضي التام لما قرره فصفعني علي وجهي بقسوة بعد ان تطاولت علي ابن عمي ووصفته بأحقر الألفاظ واتهمت ابي بالنذاله والخداع.
أغلق ابي الابواب وأحسست انني حيوان بائس لا يستطيع الفكاك فاعملت عقلي واتصلت بصديقه لي تسكن بجوارنا و ذهبت لجدتي التي كانت تسكن معنا في فيلا مستقله وغافلتها وخرجت الي السطح امشي بحذر علي الجدار وقفزت إلى الشارع فالتوي كاحلي فربطته بحجابي وشددت عليه وأخذت أقفز علي قدم واحده كطائر مجروح الى ان وصلت لمنزل صديقتي وما أن رأت حالتي حتى نصحتني بالعودة لاهلي علي ان اعود اليها مره اخرى بعد ان يتم شفائي فاتصلت والدتها بأمي وأخبرتها بوجودي.
لحظات وجاء ابي بسيارته يصحبني إلى الطوارئ والباقي انت تعلمه من الطبيبه.
قال الطبيب بحرص :
لكني لم أستمع لحالتك منها وأفضل ان تعطيني فكره عن رأيها لحالتك فقالت لقد وقفت بجانبي بشكل رائع ونصحتني تكملة مشواري العلمي وان لا أتزوج إلا من أرضاه الا ان ابي كان يعارضها بشده واتهمها انها لاتعلم شيئا عن مجتمعنا حاولت المسكينه ان تقنعه برأيها الا انه طبيعته البدويه بدت في أول نقاش وطلب من مدير المستشفي العمل على تحويل حالتي لطبيب يثق به ويعلم عن مجتمعه البدوي .
ضحك الطبيب بداخله بعد ان علم ان التحويل بناء على طلب والدها وليس لمساته السحرية كما ادعت صديقته الطبيبة وقال :
لقد استمعت إليك جيدا وأرجو ان تعطيني الوقت الكافي للاستماع إلى والديك فهزت رأسها آسفة وكأنها تقول له لافائده!
ابتسم الطبيب وهو يرى والديها ببساطتهم وكلامهم البدوي الذي لم يفهم معظمه إلا أن الضحكة قاربت كثيراً من شفتيه عندما نظرت اليه والدتها قائله:
هل عرفت كيف هربت ومن ساعدها علي ذلك الأمر!
توقف قليلا قبل ان يقول لها انه سر المريض ولايحب كشفه لأي احد ان كان الا انها اكملت ولم تنتظر منه الإجابة قائله :
بالله عليك يادكتور كيف ذهبت لمنزل صديقتها و كاحلها مكسور!
هز رأسه في انتظار ان تكمل خاصة بعد ان احس انها تعلم شيئا تريد البوح به فقالت بثقة غريبة:
انه الجن لقد حملها وطار بها الى منزل صديقتها.
تخيل للحظات انها تلقي نكته الا انها كانت تتحدث بشكل جدي لا هزل فيه وأصابته الدهشة عندما أكد والدها قولها فقال لنفسه:
كم انت مسكينه ياجراده.
ما ان عاد الطبيب مريضته حتى وجدها واقفة في انتظاره وما ان رأته حتى رنت ضحكتها بشكل مُلفت جاءت علي أثره الممرضه فرحه لفرحتها وطالبتها ان تشاركها الضحكة فقالت ومازالت ضحكاتها تتوالى دون توقف :
هؤلاء اهلي وانا ادري بهم عنك ولا فائده مرجوه من الحديث معهم وانا في انتظار فك الجبيرة لأعود الى طبيبتي الامريكيه لتساعدني علي العودة لأمريكا .
احس الطبيب بطعنه قاسية بعد ان شعر بان لمساته السحريه خبت وفقدت بريقها فلم يستسلم وطلب منها الاستماع جيدا لما يقوله فهدأت قليلا وتوقفت عن ضحكاتها الهازئه فقال لها لقد جلست مع والديك بالامس واري ان هناك فجوه كبيره بين عالمك وعالمهم وذلك الذي يسبب شعورك بالغضب والإحباط .
هزت رأسها بالموافقة فأكمل بهدوء :
وعلي هذا فإن عالمك وعالمهم منفصلين وعليه لابد من إيجاد طريقة لإنشاء ممر بينهما يسمح بالمرور في الاتجاهين دون اي عرقلة أو عقبات استهوتها فكرته الجديده في تحليلها للامور وأشارت عليه بأن يكمل حديثه إلا أنه أخرج كتابا للأديب يحي حقي ( قنديل ام هاشم ) و ناولها إياه قائلا :
تلك أداه جديده بعلم النفس تسمى العلاج بالقراءة وارى ان انسانه بعلمك وذكائك ستستفيد كثيراً وتركها متمنيا لها قضاء وقت ممتع مع الروايه .
جاءت الطبيبة الامريكية صباح اليوم التالي تنظر اليه بإعجاب وقالت صائحه :
كنت اعلم ان لمساتك سحرية لكن ليس لذلك الحد فقد تغيرت جرادة مابين يوم وليله فقد زرتها بالأمس ووجدتها تتحدث عن والديها بحب ولأول مرة بعد ان كانت تتلفظ الفاظ قاسية عنهما في كل مرة أراها.
احس بالفرحة لإحساسه بان عطاء الله له في شفاء مرضاه اصبح حقيقه واقعه وخاصه بعد ان اتصل بها والدها وأخذ يشكره ويدعو له بالصحة وطول العمر.
كاد ان يطير للقسم ليري بنفسه ذلك التغيير وما ان دخل غرفتها حتي وجدها تلملم في أغراضها وتقول بأدب :
انت فعلا طبيب ماهر فلم تعطيني اي دواء فقط جعلتني أواجه نفسي وأدركت المغزي من قراءة تلك الرواية الشيقة فانتهيت منها في سويعات قليلة واعجبني بطل الرواية عندما ترك قريته التي يعمها الجهل وكان يوما واحدا منهم لينتقل إلى الغرب ليحصل علي العلم وعاد حاملا أعلى الشهادات في طب العيون ليجد أهله مازالوا في الجهل يتداوون بزيت يعتقدون بقدسيته وعندما كسر القنديل في الجامع لينهي ذلك الأمر واجه العامه والمجاذيب فدخل في معركة غير عادلة انتهت في غير صالحه فكفر بعلمه وبقي صريع الفراش إلى أن نصحه صديقه بأخذ أيديهم برفق و يداويهم بعلمه ثم يتدارك ما جبلوا عليه لينتهي الامر لصالحه بعد أن فطن انه لكي يقنعهم بالعلم لابد أن يغلّفه بما يدركونه .
قال الطبيب بانبهار:
كنت أدرك أنك ستفهمين قصدي لكن لم أكن أعلم أنك بهذا الذكاء فهل لك ان تدليني علي ما تنوين عليه.
ابتسمت ابتسامه ساحره وقالت ستعلم بعد فتره فشد علي يدها وتمنى لها كل الخير.
مرت فتره طويلة لم يسمع عنها شيئا إلى أن أتاه والدها يوما ما بعد عودته من أمريكا ومعه رسالة من ابنته ففتحها بلهفه:
طبيبي الفاضل
لن انسى فضلك ماحييت وسأعزي نجاحي دوما إليك فكنت لي السراج الوهاج في حلكة الليل فأنرت لي الطريق وسرت علي خطي بطل الرواية فبدلا من الإصرار علي تغيير مجتمعي وافقت علي الزواج من ابن عمي علي شرط ان يذهب معي لامريكا ويتقدم لإحدى الكليات عن طريق إحدى بعثات الحكومة فسر والدي بذلك الأمر وكذلك ابن عمي الذي ما إن ذهبنا الي هناك حتى انشغل بملذات الحياة وتركني لانهل من العلم ليتمتع بمزايا البعثة المادية للهو واللعب وتعرف علي إحدى الغانيات فتزوجها وعاد بها الي الوطن منشرح الخاطر بعد ان اقنعها بارتداء الحجاب وأحس انه قام بواجب ديني اهم من التعلم فاقنعت أبي أن يحضر للسكن معي ليطمئن فلم يتواني لإحساسه بالذنب بعد ان خذله ابن أخيه فجاء الي أمريكا ورأي بعينه كيف يقدرونني ويحترموني فأكبر في اخلاقي ومكث معي مدة وعاد وهو مطمئن تماماً فاوصيته بتسليم ذلك الخطاب لك
ملحوظة:
اسمي الان الدكتورة جودي .
قصه من روايتي الاخيره ( اوراق في درج مغلق)
أمانجي
جلست امام الطبيب وقد عقدت يدها علي صدرها تنظر للأرض والدموع تنهمر من عينيها وتقول بخوف:
زوجي مظلوم فأنا خائنه واستحق العقاب!
بدي الإعياء علي وجهها و تهدج صوتها ووضح من لهجتها انها سودانية، كانت امرأة في الثلاثين من عمرها جميلة التقاطيع سمراء اللون ، تحسست جسدها وهي تتألم وأشارت إلى الكدمات الزرقاء المتفرقة علي عنقها وكتفيها.
قالت بخجل وهي تنظر للأرض :
اسمح لي بالبقاء بالمستشفى لحين ترتيب أموري فأنا أخشى العودة للمنزل خوفا من أن يجهز علي زوجي !
اوصي الطبيب بإدخالها للملاحظة وبدأ في كتابة التقرير الا ان باب الغرفه انفتح مرة واحدة بدون استئذان ليدخل رجل شديد الاسمرار طويل القامة فكادت راْسه تلامس سقف الغرفه وهجم مرة واحدة علي المريضة وجذبها بعنف يأمرها بمغادرة العياده فقامت المسكينه وهي تتاوه وألقت نظره ضعف واستكانة ومشت خلفه صامتة دون ان تنبس بكلمة واحدة وكأنها حيوان ذليل يتبع سيده الذي أحكم قيده .
ضغط الطبيب علي زرار الطوارئ الأحمر أسفل المكتب فاندفع للغرفه أفراد الأمن ألجمته المفاجأة وقال بغضب
شنو!!
قال الطبيب بهدوء لقد سجلت الحالة علي أنها عنف اسري ولابد من عرضها علي لجنة خاصة بتلك الشؤون للبت فيها
فحاول أن يتملص ويعد بالحضور معها صباح اليوم التالي إلا أن كلمات الطبيب كانت قاطعه وتركه مع أفراد الأمن ليقوموا بواجبهم كما هو متبع في تلك الحالات .
بدأت حكايتها وهي تشعر بانها تزيل جبال من علي صدرها وقالت:
اسمي امانجي سعوديه الجنسيه سودانية الأصل يطلق علينا بقايا الحجيج بعد أن استقر جدي بالمملكة بعد انتهائه من الحج وتوفي في جدة وانتقل ابي الي المنطقة الشرقية للعمل بشركة أجنبية .
حصلت علي شهاده الثانويه والزمني المنزل في انتظار الزوج المناسب كما هي العادة في عائلتنا ،كانت هوايتي الشعر والقراءة فلم أشعر بحاجتي للشهادة الجامعية فابدعت في الكتابة ووجدتها متنفس لي الي ان جاء أبي يوما يزفني لأحد أبناء صديقه من نفس قريتنا بالسودان يعمل علي أحد حفارات البترول.
كانت بدايات زواجي تبشر بالحب والسعادة إلا أن الله لم يهبنا طفلا يملأ حياتنا وخاصة أن طبيعة عمله شاق و يضطر للابتعاد بالأسابيع عن المنزل لابقي وحيده دون أنيس سوى صديقه مصريه تزورني من حين لآخر
حاولنا الإنجاب عن طريق أطفال الأنابيب إلا أنها كانت عمليه مرهقه اضاعت من أموالنا وأوقاتنا الكثير حتى جاء يوما رفض أن يكمل واستسلم لقضاء الله ،حاولت أن أقنعه بتبني أحد الأولاد اليتامى الا انه كان يثور ثورة عارمة لخوفه من تعليقات أهل قريتنا.
اصبح عالم الانترنت هو شغلي الشاغل بعد أن وجدت ضالتي بغرف الدردشة وغرف الشات كما تعرف بلغة الكمبيوتر وأتاحت المجال لي للتعارف على مختلف الشعراء في عالمنا العربي
حذرتني صديقتي من مغبة الدخول في عالم الانترنت لأنه برأيها عالم محاطٌ بالسرية والدهاليز المظلمة بعيد عن النور! وأخبرتني بأنه كان السبب الأساسي وراء انهيار العلاقات الزوجية و الوقوع في فخّ الخيانة الزوجية .
كنت اضحك من كلامها واتهمها بالجهل وانا أؤكد لها ان دخولي ليس بغرض الإثارة كما يفعل معظم الناس إنما لتنمية موهبتي الشعرية فترد ساخرة :
شعرية باللبن!
كان أشد ما أخشاه أن يعلم زوجي انني أضع أشعاري علي النت لعلمي التام بعاداتنا وتقاليدنا والتي لاتسمح بتلك الحرية الا ان كمية الليكات أذهلتني وأدارت راسي وجعلتني مشدودة إلى ذلك العالم السحري بسلاسل من حديد فغاليت في تعقيد كلمة سر الدخول حتى انني كنت أنساها في معظم الأوقات لأُعيد تكوين أخري أشد تعقيدا وكأنني أغلق باب كهفي بالمتاريس كي لايتطلع أحد على الكنوز بداخله.
بدأت بشكل ودّي بالتعرف علي بعض الشعراء السودانيين لاستخدامي اللهجة السودانية في كل أشعاري ثم تحولت علاقتي إلى شيء أكثر جدية بعد ان امتدح الشاعر المعروف احد أشعاري
تمددت امانجي علي السرير وأغمضت عينيها ورددت بصوت شجي:
ماكنت احلم باعتناقك غير أني في مرايا وجنتيك تركت قلبي عاريا
ورحلت في أفق الحياة أتوه في ردهات حسنك والقصور
وهجرت فرحي في صحاري لوعتي ومشيت من بر الغرابة أمتطي زهو الشعور
انقل خطواتي في كل يوم للوراء وانزوى في اخر الأركان اكتب قصتي تفضل يمناي السطور
أُطفِأ الطبيب نور غرفتها وتسلل للخارج وتركها تغط في نومها تحلم بمن تركت قلبها عاريا علي وجنتيه!
كانت الجلسة الثانية مليئة بالتفاصيل الدرامية بعد أن كشفت الغطاء عن عذابها وتحملها آلام الفراق لتبقي وحيده في فراشها بين خيالات أشعارها وأضحي جلوسها أمام الكمبيوتر اثناء غياب زوجها هو تسليتها الوحيدة فكانت اشعار شاعرها المفضل تتنقل بها في دروب الحياة فتشعر وكأنها فراشة هائمة تجذبها بريق كلماته الي ان اتي يوما زوجها قبل موعده المتعارف عليه فرآها أمام شاشة الكمبيوتر وكأنها انفصلت عن عالمها الحقيقي لتذوب بروحها في عالمها الافتراضي فلم تشعر إلا بيده القوية تجذب الكمبيوتر من أمامها و ضغطت بدون وعي علي الشاشة لإغلاقها فجن جنونه وأصر علي إعطائه كلمة السر للدخول الا ان المسكينه انعقد لسانها و شل تفكيرها وانزوت في ركن الغرفه تحمي وجهها من ضرباته المفاجئة إلا أنه لم يتوقف وأنذرها بأنه سينهي حياتها اذا لم تطلعه علي ماكانت تكتبه فأقسمت المسكينه أنها لم يكن في نيتها أي شئ وان كتابتها ماهي الا أشعارها دون اي نيه سيئه كما يعتقد وترجته ان يسامحها بعد أن اعترفت بخطئها الا انه لم يرحم ضعفها ودموعها وما ان وضعت كلمة السر حتي خطفه من يدها وأخذ يتصفح صفحتها الخاصة وتوقف عند اسم الشاعر واخذ يقرأ مراسلاته لها بصوت عالي
اختي الغاليه السيدة امانجي اري ان اسلوبك في الكتابه متميز وأرى أن أضمك لمجموعتي الخاصة
أخذ يتصفح الرسائل حتي أتي علي جمله دعينا نسبح معا في إشعارنا بعيدا عن العيون لننهل من رحيق إشعارنا فأنت عالم بذاتك ولذلك أرسل إليك آخر أشعاري والتي لم انشرها بعد
رسمت وجهك في جبين الحلم في موج الورق وغفوت في صدر الشفق
استقبل الميعاد منك فلم يعد لي من سمائك غير أطياف الأرق
أخذت أمانجي تستعطف زوجها وتؤكد له بأنها ابتعدت عن الشعر بعد ان شعرت بان الشاعر يأخذها الى منحنى اخر غير الذي كنت اتمناه.
فصرخ في وجهها صرخه اصمت أذنيها :
هل قابلتيه!
لم ينتظر إجابتها وأخذ يكيل إليها اللكمات وحاول ان يخنقها بيديه إلا أنها أفلتت من يده بإعجوبه وجاءت للعياده علي أمل الحماية .
استأذنت الممرضه بالسماح لزوج المريضة بالدخول الا ان الطبيب قام من مكانه لاستقباله بخارج الغرفه وانتقل به الى غرفه اخري ليستمع منه عما حدث وأخبره بتقرير اللجنه.
قال الزوج بثقه:
اسمعني جيدا يازول لقد خانتني زوجتي ولو لم افعل مافعلت كان والدها سيفعله وانا ارحم منه.
قال الطبيب متهكما :
خانتك!
رد بقوه:
إن الخيانة ليست من الضروري ان تكون جسدية إنما يمكن أن تكون ايضا خياليه وهي أسوأ من الخيانة الحقيقية في عالم الواقع لان ذلك يعتبر انتهاكا للثقة التي هي أساس العلاقه الزوجيه
قال الطبيب :
لكنك تعلم أن زوجتك تتمتع طوال عمرها بالسمعة الحسنة ولم تفعل ما يسبب الإحراج لها أو لأهلها وحتى إن نوعية الكلام أشعارا عادية وليس كلمات مبتذلة
قال بعد ان خفت حده كلماته :
أن غرف الدردشة هي أكثر الأسباب وراء الوقوع في فخّ الخيانة الزوجية،
قلت وان احاول ان أشعره ببعض المسئوليه:
ان أغلب الأشخاص تدخل إلى غرف الدردشة بسبب الإحساس بالملل أو نقص الرغبة الجنسية للطرف الآخر أو الرغبة في التنويع والاستمتاع وكما علمت فإن طبيعة عملك تفرض عليك الغياب بالأسابيع وهي تُمارس هواياتها بالشعر فلماذا لاتدخل عليها السرور بقراءة أشعارها وتشجيعها بدلا من ان تجعلها تلجأ للعالم الافتراضي
اقترب موعد خروجها بعد ان تعهد زوجها للجنه العنف الأسري بأنه لن يكرر فعلته بعد أن أخذوا منه الضمانات ومراجعتهم شهريا لتقييم الحالة.
قال لها الطبيب بإخلاص وهي تستعد لمغادرة المستشفى :
ان التمادي في الجلوس أمام الكمبيوتر لساعات طويلة يقتل الحوار والتواصل مما يؤدي إلى تذبذب العلاقة بين الزوجين وتؤدي إلى تقوقع كل فرد على نفسه مبتعدًا عن الآخر فيحدث الطلاق العاطفي قبل أن يقع الطلاق الفعلي!
مرت الشهور سريعه ليجد الطبيب علي مكتبه يوما كتاب ذو غلاف جميل كتب عليه أشعار أمانجي وبجواره خطاب إهداء من مريضته:
أدين بالفضل لآرائك التي غيرت كثيرا في حياتي فأصبحت ولاول مره اشعر بذاتي وقيمتي واقتربت من زوجي بعد ان ضاقت الفجوة بيننا وخاصه بعد ان الغيت كلمة سر الدخول واصبحت علاقتنا مبنيه علي الصراحه والشفافيه.
لك مني كل الشكر.
جزء من روايتي (القضبان الحديديه)
تقدم بخطوات بطيئه ومر بصاله المنزل الى غرفته القديمه وافترش سجاده الصلاه وكبر، وعندما سجد ولامست جبهته ارضيه الغرفة فكأنما ضغط على مفتاح تشغيل شريط ذكرياته بالكامل ولم يدر كم من الوقت مر وهو على تلك الحاله. جال بعد ذلك بكافة غرف المنزل ليستعيد ذكراه في رحاب كل منها. اخذ يفتح الأبواب واحدا تلو الاخر ، لم ينتبه الى الحائط و ارضيه الغرفة الباهت لونهما فقد كان يري بقلبه وليس بعينيه. واخيرا توجه الى المطبخ وفتح نافدتة ليجد حفره كبيره لاساسات منزل جديد بدلا من شجرة الليمون التي كان اخاه الاصغر يهز افرعها المقابله للنافذه لتتساقط الازهار البيضاء وثمار الليمون الخضراء الغير ناضجة على ارضية الحديقة فتقول له الجده بحب:
الرحمة بأزهار شجرة الليمون يا رضا
فيتواري المسكين خجلا خلفي ويتمتم لي هامسا هناك ثمرة صفراء فى اعلى الغصن اريد قطفها فتقول جدتي بحدة واصرار:
أمن أجل ثمرة واحدة تقضى على شجرة بأكملها؟
يصر علي عناده ويتشبث بي بكل قوته الضعيفه ويظل يبكي إلى ان ارفعه عاليا ليتمكن من قطف الثمرة . يشب اكثر على الأعلى كي يقطف الثمرة فانزله برفق وامسح على رأسه بحنان فتنصحني جدتنا بهدوء:
لا تجعله يأخذ اكثر مما يحتاجه.
تلك الجملة البسيطة التى جعلتها عنوانا لحياتى وادركت بها معنى القناعة فى الرزق دون شرح او تعليم وحكمه استقرت بوجداني اتعامل بها مع المواقف التي تتسم بالجهل أو العناد. هكذا كانت حياتنا تسير وهكذا كنا نتعلم معانى الحياه.
تساقطت دموع صادق عندما تذكر اخاه وخرج مسرعا ليجد سهير تنظر إلىه بأسي وتأسف لما آلت إلىه الفيلا والحديقة .
اقترب منها وترك مسافه بسيطه ومشى بجوارها بتؤده لاينبس بكلمه فآثرت السكوت وظلت صامته تنظر إلى عصاته تتحرك تاره للإمام وتاره للخلف مخلفه دقات منتظمه كأنها إشارات مورس خفيه تنقل كل ما يجيش في صدر الاخر.
جزء من روايتي الاخيره ( القضبان الحديديه)
تجول صادق في مسجد السيد البدوي واخذ ينظر بانبهار إلى رسومات السقف وخطوطه الاسلاميه المتداخله. اقترب من احد المجاذيب يحمل مبخره مرتديا جلبابا فضفاضا احمر اللون تقف بجانبه فتاه يافعه رثه الثياب تتعلق بجلبابه وهو يطوف حول المقام فتتصاعد رائحه البخور في حلقات راقصه على انغام دعواته بالصبر وينهي جملته بكلمه كريم. يمط حرف الياء وهو يهتز يمنه ويسره،
اخرج صادق هاتفه الخلوي واستأذن الفتاه بأخذ صوره مع المجذوب فمدت يدها وكأنها تعودت علي ذلك الطلب فنفحها مبلغ من المال. اقترب منه فتوقف الرجل عن الدوران وثبت نظرات عينيه الحاده للكاميرا وظل ثابتا بمكانه،
وضعت سهير يدها علي كتفه الايمن فانعكس الضوء علي خاتمها الماسي الوحيد لديها بعد ان احتفظت به سرا عن فواز الذي جردها من كل مجوهراتها وارصدتها واعادها إلى خالها خاليه الوفاض. اشارت للفتاه ان تاخذ لها صوره لوحدها حتي لا تحرج صادق بوجودها معه بنفس الصوره فاخذت الفتاه عده صور واعادت الهاتف إلى صادق بفخر واعتزاز. لم تمض لحظات حتي ارسل صورته مع المجذوب لزوجته بكندا وقد كتب تعليقا ساخرا من نفسه باسفل الصوره :
من منا المجذوب!
دقائق قليله حتي اتاه الرد صادما لم يتوقعه بعد ان ردت علي تعليقه بجمله واحده:
يبدو انك انجذبت لمن بيدها الخاتم كما تنجذب الفراشة للضوء فكن حريصا علي نفسك !
نظر للصوره بامعان فاذا به يجد شعاع الضوء ينكسر علي خاتم بيد سهير فيضئ الصورة بشكل ملفت فأنب نفسه علي تعجله بارسال الصوره دون ان يلاحظ يد سهير علي كتف المجذوب.
أحس بالقلق يسري في كيانه وتأكد في داخله ان زوجته ستأتي قريبا إلى مصر لتستقصي عن احواله فشعر بحزن آدم بعد ان علم بصدور قرار طرده من الجنة.